إحدى المفارقات العجيبة في عالم ما بعد الحداثة هي إرتفاع حدة التناقضات، التي ما فتئت تشيح بوجه رمادي الظلال، خافت السمات، على مشهد صار يوصف بالإبهام والتعقيد كحدٍ أدنى، لما تحمله اللغة من رموز دالة وحوامل مترعة بالإشارات والتنبيهات... وليس غريباً أن يحمل لنا سياق الأحداث صعود التيارات الإسلامية في بلاد شهدت مخاضاً ثورياً عنيفاً، وأطاحت بأوثان ظلت جاثمة على صدور أوطانها حيناً من الدهر لا يقاس بعداد السنوات، وإنما بعداد المآسي والجراح ومقابر الأحياء والأموات.. فحصل حزب النهضة التونسي على 89 مقعداً من إجمالي 217 مقعداً في أول انتخابات للمجلس التأسيسي التونسي ما بعد الثورة، وهي حصة فاقت مجموع ما أحرزه حزب اليسار وتيار العريضة الشعبية، في بلد ظل يحاكي أمثولة العلمانية التركية الحادة، لينتهي إلى ذات المصير.. مصير يشبه سياق عالم ما بعد الحداثة الذي أسقط عن كاهله ما يسمى بالسرديات الكبرى، ومنها النزوع الأيديولوجي.. فكان حزب العدالة والتنمية في تركيا أتاتورك، وكان حزب النهضة في تونس بورقيبة.. وفي المغرب قطف حزب العدالة والتنمية الإسلامي ثمار ثورة الجوار، وحاز على 107 مقاعد من مجموع 395 مقعداً في انتخابات المجلس التشريعي، وهو ما اعتبره البعض بمثابة ظاهرة سيسيولوجية تستحق الدراسة، إذ كيف يختار المغاربة المنفتحون على الغرب حزب يقول رئيسه عبد الإله بن كيران إن العلاقة مع أمريكا وأوروبا لها أبعاد فلسفية وتاريخية، لا يمكن إسقاطها من الذاكرة الجمعية بكل سهولة، بينما يرى البعض الآخر أن استحقاق الفوز جاء نتيجة لعوامل ذاتية وموضوعية، أهمها أن الحزب نجح في إعادة إنتاج ما يسمى بالطبقة الوسطى، التي كان يملكها اليسار في السنوات الماضية.. أما ليبيا ما بعد العقيد فقد ارتسمت ملامح مستقبلها الإسلامي بصورة مبكرة في إمتداد اللحي ووقار السمت، الذي بدا على ثوار أنجزوا مهامهم القتالية بفضل ما ظل يقدمه لهم حلف الناتو من غطاء جوي ودعم لوجستي، على مدى ثمانية أشهر، في مشهد دال على حجم المفارقة التي طرأت على العلاقة بين الغرب والإسلاميين منظور لها بالجهتين.. حيث يرجع الفضل لتأطيرها على هذا النحو إلى ما سطّره يراع فريد زكريا في النسخة الدولية لمجلة نيوزويك بتاريخ 15 / مارس /2009م تحت عنوان الإسلام الراديكالي: حقيقة من حقائق الحياة يجب التعامل معها والفكرة تتضح جلياً بمجرد النظر إلى العنوان الدال وقد التقط أوباما قفاز المبادرة التي تماهت مع توجهات سياسته الخارجية، وأحالها لبرنامج عمل مشروط بمعايير اللعبة الأمريكية، وربما تستكمل المسألة أبعادها بالفوز المتوقع للتيارات الإسلامية في مصر ما بعد الثورة، والذي بدأ يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، وهذا رهين كذلك بما تصل إليه الذوات الفاعلة بالتاريخ - مستقبلاً - كما يقول هيجل في اليمن وسوريا، وفيما بعد الجزائر والأردن، حينها يدرك ذوو النظر الإطلالي، إن ما يحدث في بلاد الأعاريب ليس مجرد إنتفاضات تنتقل بعدوى المؤامرة ومؤامرة العدوى، بل هو تغيير جذري وعميق يؤكد تجانس العالم العربي كوحدة تحليلية، تتماثل في سماتها العامة وأطرها الحاكمة، وتستحق أن تؤسس سياساتها على هدى المصالح المشتركة، لا هوى أمزجة أنصاف الحكام، وأشباه الطواغيت الذين أعتقلوا أوطانهم في أوثانهم، فتساقطوا كما تتساقط دمى الشطرنج.. وبينما تتجه الأفئدة صوب هذا الصعود الإسلامي الصاعق مترقبة دلالاته ومآلاته بمزيج من الآمال والمخاوف، يكثر الإستشهاد بتجربتي إيران والسودان كنماذج مسلم بفشلها،، وأضاف إليهما دكتور خالد الحروب الأكاديمي المرموق تجربة حماس في غزة، وغني عن القول أن حيثيات الفشل والنجاح، بالمقارنة مع حجم الاستهداف المتواصل، والتشظي الداخلي يجعل الإكتفاء بدمغ هذه النماذج بالفشل، دون استصحاب الوقائع والبراهين، أمر ينطوي على كثير من المبالغة والإفتئات.. وتظل سانحة اللحاق بركب الإصلاح أمراً مواتياً، وإن صاح أحدهم «فاتكم القطار.. فاتكم القطار».