ü حرصتُ على متابعة ردود فعل المصريين على التقدم الكبير الذي تحقق لقوائم التيارات الإسلامية في الجولة الأولى لأول انتخابات مصرية بعد ثورة 25 مايو التي أطاحت نظام حسني مبارك، حرصٌ يقف وراءه أكثر من سبب. أولها هو المكانة الخاصة التي تحتلها مصر في العالم العربي كأكبر وأهم دولة عربية، وثانيها هو أن حركة الأخوان المسلمين في مصر هي أكبر وأقدم حركات الإسلام السياسي وأكثرها رسوخاً، وهي بمثابة «الحركة الأم» التي انبثقت عنها وتفرعت الحركات الأخرى واستندت إلى طروحاتها الفكرية وأدبياتها وظلت بعضها تعمل تحت رعايتها المباشرة من خلال ما يعرف ب«التنظيم العالمي» للأخوان المسلمين، وحتى تلك التي خالفتها أو انشقت عنها ظلت تُدين لها بالولاء الفكري أو العاطفي وتحفظ لها فضل السبق والريادة، وتجد في طروحاتها الفكرية وممارساتها العملية ما يبرر لذلك الاختلاف والانشقاق، كأفكار سيد قطب ومصطفى شكري وممارسات «النظام الخاص» للجماعة، ذلك التنظيم السري الجهادي الذي عمل تحت إمرة الإمام المؤسس الشيخ حسن البنا. ü من بين هذه الأسباب التي تدعو المرء للحرص على متابعة ردود أفعال المصريين إزاء فوز التيارات الإسلامية وأفعال هذه التيارات وأقوالها بعد الفوز هو جدة التجربة، كتجربة طازجة غير مسبوقة لا في حياة المصريين السياسية ولا في خبرة الإسلام السياسي المصري وحركته الأم التي ظلت في موقع المعارضة أو الحْظر والملاحقة منذ تأسيس «الجماعة» في عام 1928، مروراً بكل العهود والتقلبات التي شهدتها مصر. وبذلك يُصبح سؤال كيف ستتصرف الجماعة تجاه الواقع المستجد باقترابها أو امتلاكها للسلطة سؤالاً جوهرياً، يلحقه سؤال آخر لا يقل أهمية هو هل ستظل الكتلة الرئيسية للإسلام السياسي- جماعة الأخوان المسلمين- جسماً واحداً وموحداً في كنف السلطة، وأن حزبها الجديد «الحرية والعدالة» سيظل جناحاً سياسياً معبراً عنها وتتحكم هي في قراره من خلف الكواليس على طريقة المرشد الروحي و «ولاية الفقيه» الخمينية، أم أن السلطة ستكون سبباً للخلاف والشقاق وتباين الرؤى فتنقسم الجماعة وتتبادل الاتهامات كما جرى عندنا في السودان بين «القصر» و «المنشية» بعد عشر سنوات من الانقلاب واستلام السلطة؟ ü الإسلام السياسي في واقع الحال دخل الانتخابات المصرية الراهنة بعدة وجوه وتنظيمات، القيادة المركزية للأخوان، ممثلة بحزب «الحرية والعدالة»، وحزب «الوسط» بقيادة الإخواني السابق أبو العلا ماضي وحزب النور الممثل للجماعة السلفية، وهذه مقدمة لتباين الرؤى، بين من هم «إخوان مسلمون» أصلاً وبين السلفيين دعاة «الخلافة» الأكثر تشدداً و «حنبلية»، لكن مثل هذا التباين والاختلاق (قد) يسقط عندما تحين لحظة كتابة الدستور، خصوصاً تلك المواد المتصلة بقواعد الحكم وهوية الدولة، وهذا واحد من الاحتمالات. فقد يتقدم الاختلاف على الاتفاق، بحكم خبرة «الجماعة» وواقعيتها المكتسبة عبر تاريخ طويل من الكفاح أكسبها رؤية أكثر اتساعاً ومرونة، كما نرى في نهج أحد مؤسسيها الأوائل الشيخ القرضاوي المقيم بقطر. ü من بين من تابعت إفاداتهم وتعليقاتهم على فوز الإسلاميين بالجولة الأولى للانتخابات المصرية، وهو فوز يُتوقع تكراره في الجولتين المنتظرتين، مرشد الجماعة الأستاذ محمد عاكف الذي استضافته قناة «الحياة -2» المصرية، ومنصور حسن وزير شؤون الرئاسة في عهد السادات والمرشح ضمن أعضاء المجلس الاستشاري للمجلس العسكري الأعلى الحاكم خلال الفترة الانتقالية على قناة «دريم- 2»، وكذلك مجموعة من النخب الفكرية المصرية استضافتهم قناة الحياة في برنامج «مصر الجديدة» الذي يقدمه معتز الدمرداش. في كل هذه الحوارات وعلى مدى ساعات كان السؤال الرئيس يتصل بمخاوف المصريين من أن يقود فوز الإسلاميين وحزب الحرية والعدالة، باعتباره الأوفر حظاً، إلى قيام دولة دينية «ثيوقراطية» شمولية قابضة تعود بالبلاد إلى مرحلة أسوأ مما كان عليه الحال قبل ثورة 25 يناير. سؤال عبر عنه العديد من المتصلين والمداخلين في الحوارات الدائرة في الاستديوهات. ü المرشد محمد عاكف، كان حريصاً على التأكيد على التزام جماعته وحزب الحرية والعدالة، الذي اعتبره أحد فروع الجماعة أو «ذراعها السياسي»، باعتبار أن لها عدة أذرع وفروع تختص بالشؤون الاجتماعية والرياضية والفكرية والعون الإنساني، كان حريصاً على التأكيد على الالتزام «بالدولة المدنية» التي بشر بها حزبهم قبل وأثناء الانتخابات، وذهب يوضح أنه ليس في الإسلام «دولة دينية» وأن شؤون الحكم هي من اختصاص الشعب الذي يختار الحاكم بملء إرادته الحرة. متفادياً أدبيات الجماعة القديمة التي بشر بها حسن البنا وأبو الأعلى المودودي عبر مقولة «الحاكمية لله»، واقتصر على القول بأن ما يريدونه هو «دولة مدنية بمرجعية إسلامية». وعندما سأله المذيع المحاور عن النموذج، هل هو النموذج التركي أم الأفغاني أم الماليزي، قال: لا هذا ولا ذاك، لا النموذج التركي ولا الأفغاني و«لا السوداني»، إنما النموذج المصري. وعندما طرح عليه مخاوف المصريين بشأن السياحة والاستثمار وسن قوانين متشددة تقعد بالسياحة والاستثمار الأجنبي، قال المرشد إن لديهم تصوراً متكاملاً لكيف تدار السياحة وأن الأمر لا يقتصر على الأزياء في الشاطيء أو ممارسات السياح، وهرب من السؤال مستخدماً ذكاءه وبلاغته، وتفادى الوضوح والقطع في القول كما فعل الغنوشي وهو يجيب عن ذات السؤال في إحدى الفضائيات عندما قال: إنه ليس من حق الدولة التدخل في ماذا يأكل أو يشرب أو يلبس الناس. ü خلاصة الحوارات التي دارت مع منصور حسن ومع بعض المثقفين الذين استضافتهم القناتان بشأن مخاوف المصريين من فوز الإسلاميين يمكن تلخيصها كما يلي: في المقام الأول على جميع المصريين احترام نتائج صناديق الاقتراع غض النظر عمن تحمله هذه النتائج إلى سدة الحكم وبرنامجه ورؤاه السياسية، لأن في ذلك احترام لرأي الشعب ورضاء بقواعد اللعبة الديمقراطية. وثانياً فإن الإسلاميين في الحكم لن يكونوا كما كانوا في المعارضة، فضرورات الحكم ومصالح المجتمع المصري والمسؤوليات المترتبة عليها ستعدل قطعاً من نهجهم الذي كانوا يبشرون به وهم في المعارضة، ليعودوا إلى أرض الواقع ويحاولوا التواؤم معه استجابة لتلك المصالح، لأنهم يعلمون أنهم لو خالفوا منطق هذه المصالح فإن الشعب سيعاقبهم في الانتخابات القادمة بعد أربع سنوات. وهم كذلك مضطرون للتوافق على دستور يرضي جلَّ طوائف المجتمع وأطيافه السياسية، لأن الشعب الذي خرج في ثورة 25 يناير لن يقبل بدكتاتورية جديدة تحت أي رداء أو شعار، ولا بد أن تجربة التحاقهم ومشاركتهم في تلك الثورة قد علمتهم- على الأقل- أن إرادة الشعب هي من إرادة الله، فهي التي هيأت لهم هذه الفرصة للوصول إلى مركز اتخاذ القرار في الدولة بعد نحو 80 عاماً من الكبت والإقصاء والملاحقة.