فوق مظلة الاحداث: مصطفى أبو العزائم عظمة المناسبة منعتني من أن أعتذر عن تلبية الدعوة الكريمة من رئاسة الجمهورية، لأكون ضمن الوفد المرافق للسيد النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه.. ليس عظمة المناسبة وحدها، بل الطمع في بركتها لأنها ترتبط بحفل ختام مهرجان القرآن الكريم التاسع والثلاثين الذي تشرفت به مدينة نيالا هذا العام، والذي كان ميلاده لأول مرة في عهد حكم الرئيس جعفر محمد نميري - رحمه الله - وفيه يتنافس المتنافسون في حفظ كتاب الله وتلاوته، ويفوزون بخير الدنيا والآخرة معاً.. وكنت حريصاً على أن أكون مع «أشراف الأمة» وهم حملة القرآن وحفظته الذين يحملون النور في صدورهم وقلوبهم يضيئون لنا جنبات الكون. تأخر إقلاع طائرتنا الرئاسية الصغيرة نحو ساعتين، وقد أبلغنا بذلك بعد وصولنا إلى المطار، نسبة لبرنامج طرأ في جدول أعمال النائب الأول لرئيس الجمهورية.. ومضت ساعتا الانتظار سريعاً إذ التأم شمل عدد من الزملاء والأصدقاء لم يتبادلوا الحديث المفصل منذ حين، فقد كان هناك في صالة الانتظار الأساتذة الزبير عثمان أحمد، الإذاعي المعروف، ويوسف عوض الجيد وعبده الأمين من التلفزيون، ليلحق بنا الدكتور ياسر محجوب رئيس تحرير صحيفة «الشاهد» الغراء، وكمال الدين عمر من المكتب الصحفي برئاسة الجمهورية. وفد النائب الأول وصل السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية، واتجه فور وصوله نحو الطائرة مُباشرة، وكنا قد صعدنا إلى الطائرة قبيل وصوله بدقائق معدودة، وحال دخول النائب الأول إلى الطائرة الرئاسية الصغيرة علمنا بأن الوفد المرافق له للمشاركة في الحفل الختامي لمهرجان القرآن الكريم، يضم السادة الدكتور محمد المختار حسن حسين وزير رئاسة مجلس الوزراء المكلف، وخليل عبد الله محمد علي وزير الإرشاد والأوقاف المكلف، والمهندس الصافي جعفر الصافي، أمين عام المجلس القومي للذكر والذاكرين وإبراهيم الخواض مدير مكتب السيد النائب الأول ومجدي عبد العزيز مساعد مدير مراسم الدولة، إضافة لوفدنا الإعلامي الذي أشرنا إليه. مفاجأة الرحلة.. العمدة امرأة في المقصورة الوسطى للطائرة والتي تضم أربعة مقاعد، كان أحدهما مخصصاً لإحدى السيدات، وقال أحد زملاء الرحلة إنها (عمدة) مدينة «نيالا» وكان مقعدها مواجهاً لمعقدي الذي يقع في أول المقصورة الثالثة، فذهبت نحوها وحييتها وعرفتها بنفسي فضحكت وقالت إنّها تعرفني وإنها صديقة لشقيقتي الأستاذة منى أبو العزائم، وتعرفت عليها لأجد أنها أول امرأة تتقلد منصب العمدة ليس في مدينة «نيالا» وحدها.. ولا في ولايات دارفور الثلاث.. بل في كل السودان.. وهي الأستاذة فاطمة محمد الفضل آدم رحال، عضو المجلس الوطني وعمدة مدينة نيالا.. واتفقنا على عمل صحفي يفيد قراء الصحيفة وينقل هذه التجربة للآخرين.. من المطار إلى بيت الوالي وصلنا إلى مدينة «نيالا» فوجدنا أن الدفء يلف المدينة الوادعة الجميلة، وكنا قد غادرنا «الخرطوم» التي كان يغطيها صباح شتائي بارد، وما نافس دفء المدينة إلا ذلك الدفء الذي لمسناه وعشناه وأحسسناه لدى أهلنا لحظة استقبالهم للسيد النائب الأول ووفده المرافق.. كل قيادات الولاية كانت في استقبال السيد النائب الأول، بل جاءت قيادات أخرى رفيعة من ولايات أخرى، تقدمها الأستاذ عثمان محمد يوسف كبر والي ولاية شمال دارفور، وعدد من وزرائه، وشارك في الاستقبال كل قيادات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وقيادات القوات النظامية هناك وجموع من المواطنين ورجالات الطرق الصوفية ومجموعات من الفرق الشعبية الأهلية وعدد من ممثلي الأحزاب والمنظمات السياسية، وفئات المجتمع المختلفة من شباب ونساء وأطفال. نيالا.. تتغير.. تحرك الركب من مطار نيالا نحو المدينة، والسيارة التي تقل السيد النائب الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه، وتقل والي جنوب دارفور الدكتور عبد الحميد موسى كاشا وبقية السيارات كانت تتجه إلى داخل المدينة التي زرتها مراراً وتكراراً منذ أيام الدراسة في المرحلة الثانوية، وتوطدت علاقتي بها مع مر الأيام حتى لأكاد أزعم أنني أحد عارفيها ومحبيها الكثر.. ولكن «نيالا» التي كانت السيارات تجري بنا نحوها، لم تكن هي تلك التي عهدناها وعرفناها منذ حين، فالتغيير ظاهر للعيان، والأحياء السكنية الجديدة آخذة في النمو والتوسع والارتفاع، والخضرة تحف الطريق من جانبيه، والزحام هو ذات الزحام القديم، وربما إزاد كثيراً عما كنّا نعهده في هذه المدينة الجميلة التي تعتبر واحدة من أكثر المدن السودانية اكتظاظاً بالسكان، ولا غرابة في ذلك إذ إن ولاية جنوب دارفور نفسها تعتبر الثانية من حيث الكثافة السكانية في السودان بعد ولاية الخرطوم. داخل «بيت» الوالي وصلنا إلى بيت الوالي - ولا أقول منزله - ذلك البيت الواسع الذي يحمل طابع بيت الضيافة وسمته وصفته، لأنه على تلك السعة يستقبل المئات، وهو معروف لدىّ منذ وقت بعيد، وقد أقمت فيه عدة مرات إبان تولي المهندس الحاج عطا المنان لمسؤوليات الولاية عندما كان والياً عليها في وقت سابق، قبل أن يولى عليها الأستاذ علي محمود الذي جاء بعده عبد الحميد موسى كاشا عقب إجراء الانتخابات العامة في أبريل الماضي. تفرق الناس وكذلك بقية أعضاء الوفد، ما بين البحث عن زملاء أو أصدقاء والتحدث إليهم، وما بين الأماكن المخصصة للصلاة، أو التفاكر حول مشتركات كثيرة أو إحياء صداقات قوية من خلال السؤال عن الأهل والأصدقاء والمعارف. مع الصافي جعفر اجتمع نفر - كنا من بينهم - لأداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً وتحت مظلة ضخمة أحيطت بمقاعد جلوس حديدية، وقد أمنا فضيلة الشيخ المهندس الصافي جعفر الصافي، الأمين العام للمجلس القومي للذكر والذاكرين، ورئيس مركز النفائس للإبداع والتنمية.. وقد التففنا حوله وسألته عن مهرجان القرآن الكريم، فقال إنه شيء طيب بدأه الرئيس الراحل جعفر محمد نميري - رحمه الله - وصار تقليداً سنوياً، وجاء الإنقاذيون ليثروه أكثر وتحمسوا له فصار شهوده بمستوى رئاسة الجمهورية. ورأيت أن أميل بالحديث نحو السياسة وربطها بالدين، وإن كان في الإمكان الخروج من أزماتنا الاجتماعية من خلال مثل هذه المهرجانات، وقد سألت الشيخ الصافي جعفر ذلك، فقال إننا الآن في السودان وبعد تطبيق الحكم الفيدرالي، ومع إيجابياته الكثيرة، إلا أن هناك سلبيات كثيرة صاحبته أهمها تغذية الجهويات القبلية والطائفية وهي من أخطر عوامل تفتيت الأمة، والله سبحانه وتعالى اعترف بالتباين بين الأجناس، في قوله تعالى: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» ولم يقل لتعاركوا.. والسودان بحدوده الجغرافية الحالية قريب عهد بالنسبة للدولة الحديثة، وقد فرضه الأتراك عام 1821م، ولذلك صاحب تطبيق الحكم الفيدرالي تلك الأشواق، أشواق الدويلات القديمة، وأعتقد أن الترياق الشافي في علاج هذه المشكلة على نطاق أهل السودان هو الالتفاف حول القرآن، وهذا يقربنا من شكل الأمة السودانية الذي نصبوا إليه في خلاصة مسيرتنا السياسية. في حضرة الإدارة الأهلية قبل التحرك نحو ستاد «نيالا» لنكون شهوداً على الحفل الختامي لمهرجان القرآن الكريم، شاهدنا عدداً من قيادات الإدارات الأهلية طلبوا الاجتماع مع السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية، وقد شهدنا ذلك اللقاء، حيث أكد قادة الإدارة الأهلية على حميمية العلاقة مع جمهورية جنوب السودان وقالوا إن هناك مضايقات يتعرّض لها أهلهم الرحل، مشددين على أنهم مع القوات المسلحة قلباً وقالباً، لكن أهمية العلاقة مع دولة جنوب السودان تقتضي عمل ورشة عمل تضم كل المتأثرين والسياسيين والمختصين لحل مشكلة الرحل وانتقال الماشية نحو المراعي في فصل الجفاف، وقد استشهد أحد المتحدثين بمثل شعبي - شأنه شأن كل الدارفوريين - بأن قال: (البحس ما بدس) أي أن الذي يشعر بشيء لا يخفيه، وقد طالب كل المتحدثون بإبقاء الدكتور كاشا والياً على ولاية جنوب دارفور، وقد خاطبهم السيد النائب الأول وتحدث إليهم حديثاً طيباً وقال إنه سيرفع أمر طلبهم حول بقاء الوالي للسيد الرئيس، وقد أثنى السيد النائب الأول على روح قيادات الإدارة الأهلية المتضامنة في حفظ الأمن والحرص على سلامة النسيج الاجتماعي قائلاً إن هذا هو المرجو من الأمراء والنّظار والشيوخ مجدداً عهد الحكومة بالوقوف معهم حتى تكتمل المصالحات القبلية موضحاً أن أمر الجنوب مهم ويتم النظر له ضمن المسائل العالقة وأن هناك اتفاقاً مع جمهورية جنوب السودان على عدم منع مسيرة المواشي. قراءة في دفتر أعمال حكومة جنوب دارفور شهد السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية اجتماعاً ضم أعضاء حكومة ولاية جنوب دارفور وعدد من قيادات مجلسها التشريعي وقيادات الأجهزة الأمنية بالولاية، واستمع إلى تنوير حول الحالة العامة للولاية وموقف الأمن في مختلف المحليات إضافة إلى التنمية والمشروعات الزراعية ومشروعات المياه والطرق والكهرباء. في الإستاد تحرك وفد النائب الأول ليصل إلى ستاد نيالا حيث احتشد الآلاف واحتشد ممثلو ولايات السودان المختلفة ليشهدوا أعظم حدث وقع عصر ذلك اليوم في عموم دارفور. جدد الاستاذ علي عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية مضي الدولة على نهج القران الكريم مع خدمته والاحتكام لتعاليمه محييا استضافة جنوب دارفور لختام فعاليات المهرجان : ( الحمد لله ثم الحمد لله الذي اقامنا مقام رعاية القران والعناية بشانه وشرفنا بخدمة جناب القران ، حبلا متينا تجتمع حوله الامة فلا تزيغ بها الاهواء وترجع اليه في شانها كله وتجد عنده الصواب وتهدى به الى الرشاد باذن ربها ، وانتم تحتضنون هذا المهرجان للقران الكريم في هذا الاحتفال الرائع اراكم تخرجون حفلا اكثر بهاءً واكثر ابداعا واشد القا وتنظيما ). واشار الاستاذ علي عثمان محمد طه الى ان البلاد قادرة على اجتياز كل المحن والعقبات باعتصامها بالقران الكريم : ( بالقران نجتاز كل العقبات ، بالقران نهزم كل المؤامرات ، بالقران نحقق كل الغايات ، بالقران نتجاوز كل التحديات باذن الله ). ودعا النائب الاول لرئيس الجمهورية لان تعتمد المناهج الدراسية على علوم القران الكريم مع تقديم كامل الرعاية لحفظته ومؤسساته : ( ليكن القران مادة مناهجنا في التعليم وليكن القران باب رعايتنا لمراكزه ومشاعله وخلاويه ومساجده وحفظته جميعا ). وقطع الاستاذ علي عثمان محمد طه العهد بان لا تراجع ولا نكوص عن الشريعة السمحة مهما كثرت التحديات والابتلاءات : ( والله والله انها لمسيرة ماضية الى الله بنور القران وبراية الاسلام وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا تراجع فيها ولا نكوص عنها مهما وقعنا في الاخطاء ومهما ضعفت منا الارادة ولنجدد عزيمتنا ولنقوي من توجهنا لله سبحانه وتعالى ). من جانبه اكد د. عبد الحميد موسى موسى كاشا والي ولاية جنوب دارفور ان دارفور ستظل صمام الامان لوحدة السودان : ( دارفور ستكون باذن الله حافظة للسودان في وحدته وشعبه وارضه في دينه وفي بلده وفي عرضه ). وعدد د. خليل عبد الله وزير الارشاد والاوقاف اهداف اقامة المهرجان القومي للقران الكريم : ( تعظيم القران لنجعله دوما موصولا بحياتنا ، نريد ان نربي جيلا متمسكا بالقران مهموما بالقران ونرجو كذلك باقامة هذا المهرجان وتنقله من ولاية لاخرى ان نحدث حراكا قرانيا ودعويا نبصر به الناس بتعاليم القران لنسلم التوجه لرب العالمين ، ونصوب السير نحو الطريق المستقيم ). وبعث د. خليل عبد الله بعدة رسائل لاهل دارفور والسودان : ( تعالوا نستظل بظلال القران الوارفة الندية لننعم بالامن والاستقرار والطمانينة ، تعالوا الى كتاب الله نتعهده قراءة وحفظا وفهما ونجعله نبراسا وهاديا لحياتنا ، تعالوا الى القران ليصلح ذات بيننا ويلم شعثنا ويزيل الضغائن التي ابتلينا بها ردحا من الزمن ). الطفل الذي أبكى الكبار كان علينا قبل أن نختتم، أن نقف تحية وإجلالاً للطفل إسماعيل أحمد محمد الذي يبلغ السابعة من عمره وقد وقف هو نفسه يلقي علينا وعلى مسامع الجميع دون خوف أو رهبة أو وجل، خطبة الوداع للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد أبكى ذلك الطفل الكبار وأسال أدمعهم. وقد سألت والده إن كان يدرس في مدرسة ما، فقال إنه يدرس بالخلوة فقط وإنه يسعى لأن يحفظ كتاب الله. اللهم احفظنا.. واحفظ بلادنا.. وشعبنا وأهلنا من كل سوء وتولنا برحمتك يا أرحم الراحمين. آمين. .. و.. جمعة مباركة