«كان جنوبياً هواها» .. مفردة خطها يراع الفيتوري وصدح بها وردي حين كانت الفضاءات مترعة بالثقافة والإبداع، وحين كان الوجدان متسقاً مع المكان في سودان ما قبل الإنشطار.. ومن سخرية الأقدار أن ذات المفردة المفعمة بالرواء باتت هي الأدق وصفاً لما تمر به علاقة الخرطومببكين، هذه الأيام فقط تحتاج إلى تعديل طفيف، وهو إبدال كان بواحدة من أخواتها ليغدو السؤال دالاً وصحيحاً وصادماً (الصين.. هل صار جنوبياً هواها؟).. لن نجهد أنفسنا في طلاب مقاربة للإجابة على هذا السؤال المفصلي فقد كفانا مؤونة البحث، والإستقصاء ما أدلى به البحّاثة جيف داير في مقال شهير له تحت عنوان (بإدارة ملف نفطي مشترك عقب طلاق الخرطوم ) جوبا.. هل تنجح براجماتية الصين حيث فشل السودان ؟!) ومع أن الفكرة المركزية تتبع مدى صمود إستراتيجية بكين المعلنة حول عدم التدخل في أول إختبار جدي لها على الإطلاق، وما إذا كانت ستظل مستمسكة برباطة جأشها وحذرها البراجماتي المعهود.. إلا أن المقال الذي كتب قبل الإستفتاء يشير بوضوح إلى إمكانية ميل بكين إلى جوبا تبعاً لتغيير خارطة المصالح وإتجاهها جنوباً.. والسبب يبدو جلياً في ثنايا البيانات وأنصبة البلدان من صادرات خام النفط، حيث تحوز الصين وحدها على نسبة 65% وأندونيسيا 15% واليابان 12% والهند 5% وما تبقى تقتسمه ماليزيا وتايلاند وهولندا.. ورغم أن هذه الأرقام لا تمثل سوى 7% من إحتياجات الصين اليومية للطاقة النفطية فإن أي إخلال بها يلحق ضرراً بالغاً بالحسابات الإستراتيجية المرسومة بدقة متناهية، والتي تغذي عجلة نمو أضخم إقتصاد على مستوى العالم في العقد القادم.. ولعل هذا ما يفسّر غضبة سفيرهم الجديد لو شباو فوانغ على تصريح وزارة النفط السودانية غير المدروس بشأن إيقاف تصدير النفط عبر أنابيبها وموانيها، وقد جاءت كلماته أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام، حيث وصف الخطوة بأنها "خطيرة للغاية وغير مبررة، وأنه لا يوجد سبب لإتخاذها طالما أن هناك مفاوضات جارية بين الطرفين" والسفير الموسوم بالحذاقة المهنية وبراعة التعبير لم يكتف بإختراق مخملية اللغة الدبلوماسية بل أنه أسقط من حسبانه عمداً نقاء الخطاب الكونفشيوسي الذي تمثله العبارة الحكيمة " تصرف بجرأة وتكلم بلطف" .. لكن هذا الموقف الناضح بالعبرات والعبرات بكسر العين وفتحها، يقتضي أن نفتح العين لا أن نكسرها، وأن نعيد النظر في حلفائنا على أسس العلاقات لا التعلقات.. فقد سبق لنا أن تجرعنا غيظ الإستغفال، حين تم إيهامنا بأن بكين سوف تستخدم حق النقض للإحالة دون تمرير الإحالة من مجلس الأمن إلى محكمة الجنايات الدولية، التي لم نزل نعاظل قوائمها المعلنة والمستترة.. وعلى قادتنا أن يعيدوا النظر في إكتشاف الذات قبل معرفة الآخر، لا يكفي فقط أن يقول لنا دكتور مهدي إبراهيم (إن السودان محسود لثرواته الطبيعية وعنصره البشري المتميز)، بدليل أننا نتصدر قوائم الفشل من علٍ، ونتذيل قوائم النجاح على مستوى العالم.. ولا يكفي كذلك أن يقول لنا دكتور نافع(إننا في معراج ولسنا في منعرج) فالساسة بطبعهم يميلون لإخفاء الحقائق الجوهرية وترصيع الواقع بالزخارف والنجف.. علينا أن نعيد النظر في مزايانا النسبية كرتين، وأن ننتقل في علاقاتنا مع الصين من دوائر التعلق والإعجاب، إلى دوائر العلاقات الموضوعية، ومن دوائر الإرتماء والإذعان إلى دوائر الإنتماء للذات وتغليب مصالحها العليا.. وفي هذا السياق لماذا لايتم تطوير علاقة ذكية مع اليابان، وهي الدولة التي انتقلت منها عدوى النمو والتقدم إلى فيل آسيا وتنينها وجميع نمورها الوثابة.. أولاً يكفي أن اليابان هي الأولى في تقديم المساعدات الإنمائية على مستوى العالم، والإفادة منها في بناء نهضة حقيقية على جميع المستويات يبدو أمراً ضرورياً.. ثمة مفارقة مذهلة تلوح في الآفاق مفادها أنه وبينما تغشى أواصر العلاقة مع بكين تأرجحاً ظاهراً بسبب تحولات خارطة المصالح باتجاه الجنوب، تشهد العلاقة مع واشنطن تحسناً مطرداً، ربما يتوج قريباً برفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للارهاب، هذه المفارقة هي شاهد إضافي على أن الثابت الوحيد في معادلات المصلحة وعلاقات القوة في المضمار العالمي هو التغيير.