سجل الدكتور طه حسين، في الجزء الثالث من سيرته الذاتية، لمحات من لقاء ضمه بالزعيم المصري سعد زغلول، جرى فيه ذكر الكتابة التاريخية، وإمكان تحري الدقة في تسجيل أحداث التاريخ. وقد مهد طه حسين لذلك فقال: إن سعداً كان صاحب دين عليه، يوم قدم أطروحته المهرطقة «في الشعر الجاهلي». فعندما اقترح نائب بالبرلمان، أن تقطع الحكومة المصرية إعانتها عن جامعة القاهرة، لأنها أخرجت للمجتمع مثل هذا الفتى الملحد، رد سعد زغلول، وكان رئيس البرلمان، قائلاً إنه سيقبل هذا الاقتراح، ولكنه سيقدم اقتراحاً آخر بقطع المعونة عن الأزهر الشريف، لأن الأزهر أخرج هذا الفتى المهرطق إلى الناس قبل أن تخرجه إليهم جامعة القاهرة. وهنا حار النائب وانتهى به الأمر بسحب اقتراحه ضد الجامعة المصرية. ثم طلب الأستاذ أحمد لطفي السيد، مدير الجامعة، من الدكتور طه حسين أن يتوجه لزيارة سعد زغلول وشكره، فاستحيا وتهيب، ولم يلق سعداً إلا بعد أعوام، في باريس، فشكر له تلك العارفة، وأثنى على جهده الخصب في خدمة الشعب. سمع منه سعد ذلك، ثم أجابه في فتور وضيق قائلاً إن جهده وجهد الشعب لن يغني عن الوطن شيئاً. وقال سعد الذي جاء إلى باريس للمشاركة في مؤتمر الصلح بعد الحرب العالمية الأولى مخاطباً طه حسين: ألا ترى إلى كل هذه الأبواب التي غلقت من دوننا؟ وها نحن أولاء قد وصلنا إلى باريس، فقطعت علينا الطريق إلى مؤتمر الصلح وألقيت الحجب الكثاف بيننا وبين ممثلي الدول المشتركة فيه؟ قال الفتى: ولكن هذه الجهود توقظ الشعب، وتنبهه لحقه، وتدفعه إلى المطالبة به والجهاد في سبيله. قال سعد محولاً الحديث عن مجراه: ماذا تدرس في باريس؟ قال الفتى: أدرس التاريخ. قال سعد: أومؤمن أنت بصدق التاريخ؟ قال الفتى: نعم إذا أحسن البحث عنه والاستقصاء له، وتخليصه من الشائبات. قال سعد: أما أنا فيكفي أن أرى هذا التضليل، وهذه الأكاذيب، التي تنشرها الصحف في أقطار الأرض، ويقبلها الناس في غير تثبت ولا تمحيص، لأقطع بألاّ سبيل إلى تصفية التاريخ من الشائبات. وانظر إلى ما ينشر عنا في مصر وفي باريس، وحدثني كيف يمكن أن تستخلص منه التاريخ الصحيح. طاف بذهني كلام سعد هذا عن إزجاء الأضاليل، وبثها في طيات الأحداث التاريخية القريبة، ومزجها بالأكاذيب المتهافتة، عندما فرغت من قراءة كتاب الأخ الأستاذ المحبوب عبد السلام، عن أحداث لم تمر عليها غير عشر سنوات، فإذا به يحرف فيها ما يشاء، ويحور ما يشاء، ويزين ما يشاء، ويشين ما يشاء، ويزج فيها من أهواء النفس الجبارة، ما لا يكبح جماحه لجام من تقوى، أو أَثارة من احترام لعلم التاريخ. ولقد كنت أمني نفسي قبل أن أشرع في قراءة كتاب الأخ المحبوب هذا الذي حمل عنوان «الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضُّوء .. خيوط الظلاَم: تأمُّلاتٍ في العَشْريَّة الأولى لثورَةِ الإنقاذ» بقراءة سفر تاريخي ثرٍّ نفيس يضاهي كتاب المؤرخ الشيوعي اليهودي إسحق دويتشر، عن رفيقه المناضل والمنظر الشيوعي اليهودي ليو تروتسكي. فقد أوفاه في ثلاثيته تلك المرجعية المتوازنة حقه كاملاً عن غير مبالغة أو تزيد، ومن دون أن يسبغ عليه قداسة أو يحميه من سهام النقد، ومن غير أن يتنقص خصومه أو يبهتهم أو يزدريهم. ولا مراء أن المحبوب بثقافته العريضة، ونظرته الكبيرة للأمور، وتجربته الطويلة في العمل الذي ارتضاه لنفسه مجرد«كويتب تنظيمي» يسجل محاضر المداولات السرية، لاجتماعات قادة الحركة الإسلامية، غضون الدهر الذي غبر، كان حرياً أن ينتج كتاباً تسجيلياً تاريخياً ثرياً ذكياً نزيهاً، أفضل من تهافته هذا المتهافت الذي سجله في تشويه صفحات تاريخٍ ناصعٍ لمَّا تحتوي أكثر صانعيه القبور. «وفي الحلقة التالية نفحص - بإذن الله تعالى - الخصائص العامة لكتاب المحبوب، قبل أن نشرع في تمزيقه نتفاً ومزقاً، لنحلله تحليلاً.. ونسأل الله تعالى العون والتوفيق».