في يوم الجمعة 16 سبتمبر 2011م تدفقت الجموع بصورة غير مسبوقة لوداع المهندس أو أستاذ الهندسة خالد جمال عبد الناصر، حيث تدفقت الجموع إلى مسجد جمال عبد الناصر بكبري القبة، وامتلأت الساحات بعشرات الآلاف من البشر لأكثر من كيلو متر، وتعالت الهتافات في وداع نجل الزعيم، وعلا نشيج البكاء، وهتاف الرجال، وصرخات النساء المتشحات بالسواد من الأرياف، والأحياء الشعبية، وضواحي المدينة، في وداع ابن الزعيم الرمز الخالد للوطنية والطهارة والكبرياء والشفافية، ثم تكرر المشهد مرة أخرى يوم السبت 17 سبتمبر بدار العزاء الفسيحة بمسجد القوات المسلحة بالنزهة. رحل جمال عبد الناصر منذ إثنين وأربعين عاماً، ولكنه لايزال يعيش في وجدان المصريين، كأنه ماثل في بيوتهم وشوارعهم ومدنهم وقراهم- وأعتقد أنه كذلك، فإن الزعيم ماثل بكل معاني الإباء والنخوة والنزاهة في سويداء قلوبهم.. وهو كذلك في قلوب أبناء أمته العربية والإسلامية، التي وهبها عمره وحياته ومبادئه وإيمانه وإصراره. لقد كان جمال عبد الناصر كما قال أحمد الجمال- يدرك أنه خادم للشعب.. وكان كلما سألته زوجته لماذا أنت متعجل دائماً، وتبذل جهوداً تفوق طاقة البشر حتى أصابك المرض، كان رحمه الله- يرد ويجيب عليها: دعيني أنجز شيئاً للفقراء، فليس لهم غيري، واعلمي أنني سأنتهي بسرعة، ولن يطول بقائي، فلن يتركوني أستمر فيما أفعل.. وكان عبد الناصر يقصد بالذين لن يتركوه-ويتمنون موته- الرأسمالية العالمية والصهيونية والرجعية العربية، وتحالف الاقطاع والرأسمالية داخل مصر وخارجها. لقد كان عبد الناصر يعلم أولاده كل لحظة بالقول وبالفعل وبالقدوة، أن قيمة الإنسان ليست بالسلطة والجاه، وإنما بالعلم والعمل، وهذا هوالسر في تفوق كل أولاده في الدراسة، وحصول إثنين منهم على درجة الدكتوراة في تخصصاتهم، ثم حصولهم على درجة الأستاذية في الجامعات التي يعملون بها في جد واجتهاد، مثلهم مثل آلاف البشر... ومنهم كبرى أبنائه الدكتورة هدى وأكبر أنجاله الراحل خالد جمال عبد الناصر. لقد كان عبد الناصر قدوة في كل شيء، في وطنيته، وعدم ارتهان إرادته لقوى الاستعمار والاحتلال والهيمنة، التي حاربها منذ اليوم الأول- وفي وطنية قراره- وفي مسلكه الشخصي كإنسان وكمسلم، تضاعفت في عهده مساحة العمل الإسلامي في مصر والعالم العربي، بصورة غير مسبوقة، إذ نشأ جامعة الأزهر الإسلامية، وتضاعف في عهده عدد المعاهد الدينية الأزهرية والخاصة- وتضاعف عدد المساجد ودور العبادة في مصر، فقد بلغ عدد المساجد والمكاتب الملحقة بها لتحفيظ القرآن في عهده القصير أكثر من خمسمائة مسجد، وأقام مدينة البحوث الإسلامية للطلاب القادمين من أفريقيا ودول العالم الإسلامي، وأقام مجمع البحوث الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي، وأقام جائزة ومهرجان القرآن الكريم، ودعم مناهج الدين والتربية الإسلامية في المدارس والمعاهد والجامعات، وكون لجاناً قانونية وتشريعية لتنقية القوانين لتواكب أحكام الشريعة الإسلامية، ووجه بالسماح بطباعة ونشر مؤلفات الأستاذ سيد قطب، وعلى رأسها (معالم في الطريق) الذي كان يباع بأسعار رمزية، وكل ذلك نابع من خلفية الرجل الإسلامية المستقيمة، وفوق هذا وذاك جانبه الشخصي، ومسلكه من حيث التدين والحرص على الشعائر، وقد استهل عهده في العام 1953م باداء فريضة الحج.. ثم واصل المسيرة بتجرد ونكران ذات، وحب للفقراء والمساكين والانحياز اليهم، فمات بينهم، وكان وداعه أسطورة، وكان وداع ابنه أسطورة أخرى تتكرر بعد اثنين واربعين عاماً.