عندما كنا صغاراً نعيش مع جدتنا وجدنا وأعمامنا في منزل واحد.. كنا نعيش في عالم حالم.. واهم.. (طاعم).. وكانت الأمور تفسر لنا ببساطة، تتقبلها بلا تفكير أو (ملاوتةََ) كما هو من أطفال اليوم.. كنا إذا فقد أحدنا شيئاً يخصه وأجتهد في البحث عنه.. ولم يجده.. يهدأ خاطرنا بأن أولاد الجماعة (شالوه يلعبوا به.. وسيردونه لنا حال إنتهائهم من اللعب.. والجماعة المقصودون هم (الشياطين).. وأطفالهم يحبون اللعب مثلما نحبه نحن.. فإذا لم يجدوا شيئاً يلعبون به- يمكن أن يسعينوا بأشيائنا، وربما تجدها صدفة أو يجدها غيرنا فيقدمونها لنا مبشرين بأن الجماعة (ردوها).. وربما تفقد (حبوبة) سبحتها.. وعندما تيأس من وجودها تقول أو يقول غيرها: (شالوها الجماعة يسبحوا بها ويرجعوها) .. هذه المرة أخذها (الجماعة) الكبار.. فالصغار لا يسبحون مثلنا.. وترد السبحة بعد أن يُسبح بها كبار (الشياطين) فهم يسبحون أيضاً.. (خارج النص).. عندما يصطف المصلون في المسجد.. يقول الإمام : ساووا صفوفكم.. سدوا الفرج.. فإن الشيطان يتخللها.. قال أحدهم مرة: (هو لما الله هداه.. وجاء يصلي مع الناس.. إنتو حامينوا ليه؟!) وتداعيات أخرى مع الورق.. خالتي عائشة يرحمها الله.. لم ترزق بأطفال لفترة طويلة من الزمن بعد زواجها.. كانت ترى في أخي صلاح شيئاً من الصلاح.. وطلبت منه أن يكتب لها (ورقة) لكي تنجب- والورقة المقصودة هي عبارة عن ورقة يكتبها الفكي أو (الفقير)- كما يسمونه- بها آيات من القرآن والأدعية والطلاسم التي يزعمون أنهم يلمون بأسرارها، ويتفقون على تعاطي ثمن لها، قد يبلغ نصف أوقية من الذهب الخالص.. ومقدماً يتقاضون ما تيسر من المال ويسمونه (البياض).. كتب أخي الورقة كما طلبت خالتنا التي تعتقد فيه، بعد أن شارطها أن يكون بياضه (ساعة يد)، وماهي إلا شهور قليلة.. وجاءت خالتي جزلة.. فرِحة.. تحمل في يدها ساعة جميلة لأخي.. فقد استجاب الله.. وظهرت بوادر الحمل.. سألت أخي صلاح.. وكنا أطفالاً ماذا كتبت لها في (الورقة) قال: كتبت لها (الهين.. ولين.. وديع وحنين.. شغل بالي).. وكان هذا مطلع أغنية للمرحوم بإذن الله- الفنان أحمد المصطفى.. ولكن خالتي ظلت تعتقد في أخي صلاح حتى توفاها الله.. وخاطرة أخرى عالقة بذهني أكثر من خمسين عاماً على بساطتها متعلقة أيضاً بالورق: زرت صاحبي في مكتبه.. وأنا جالس معه.. أدار أحدهم (المروحة).. فطارت ورقة من أمامه بعيداً بفعل الهواء.. فقمت من الكرسي.. وتتبعت الورقة حتى أمسكت بها.. وعدت أحملها له.. نظر اليها.. وأمسك بها بين أصابعه وقام يتمزيقها والقائها داخل السبت.. أساءني ذلك كثيراً، فلو أنه وضعها أمامه.. أو داخل الدرج حتى أخرج ثم مزقها لما كان أشعرني بتفاهة ما قمت به.. كثيراً ما أهم بتمزيق ورقة.. فأرى صاحبي أمامي وهو يمزق تلك الورقة. مقولة (حبوبتي) عن الجماعة.. وأطفالهم.. وأخذهم أشياءنا مازلت أعيشها حتى يوم الناس هذا.. فأنا من اللذين يحتفظون (بالورق)- مذكرات.. قصاصات من الصحف.. قصائد.. أو أبيات تعجبني.. ومازلت أحتفظ ببعض الأوراق التي ترجع إلى أوائل الخمسينات من القرن الماضي، منذ أن كنت طالباً بالثانوية.. بمعنى آخر أنا مريض بالورق.. ولو لاحظت جيبي المربع على الجهة اليسري من (الجلابية)، لوجدته (منفوخاً) بالورق.. وكان كثير من الإخوة ينتقدونني في ذلك أيام كنا نلبس القمصان الأفرنجية والبدل- ونأخذ زينتنا عند كل مجلس- بأن ذلك الزي لا ينبغي أن تكون جيوبه محشوة بالورق والأقلام.. فأنا في (حالة استنفار) دائم.. إذا جئتك زائراً.. فوجدت عندك جريدة أو مجلة.. أوكتاباً وامتدت يدي اتصفحه.. ووجدت فيه شيئاً أجهله أو يعجبني.. تمتد يدي إلى قلمي وورقتي وأسجله، وأرجع الورقة والقلم إلى جيبي.. وبعد وصولي البيت أعمل على نقل ما كتبت أو الاحتفاظ بالورقة.. وفي (البيت الذي بناه الجاك) حددوا إقامتي في صالة.. وبجانب سريري (شباك) أضع عليه الكتب أو الكتاب الذي أقرأه أو آخذه منه... أما بقية الكتب التي أضعت فيها شقاء العمر ومعها الزمن.. فقد أبعدوها عن رؤيا زائريهم هم، ووضعوها في الصالون.. حتى إذا حدثت فوضى رآها زواري أنا.. والحاجة لا تعجبها الفوضى.. فهي في حالة وجدت أوراقاً تخصني وضعتها داخل أحد الدواليب وكيفما اتفق.. فأجئ أبحث عن ورقة (مهمة في نظري).. آخذ منها شيئاً معيناً.. فلا أجدها.. وأكثف البحث، ويضيق صدري.. ويعلو احتجاجي وهياجي.. ولكن الغريب في الأمر أنني آتى يوماً آخر.. باحثاً عن شئ آخر.. وأول ما أضع يدي على ورقة.. في أول رف.. بأول دولاب وأفتحها تكون هي نفس الورقة التي بحثت عنها سابقاً ولم أجدها.. وصدقوني.. أكون متأكداً من أنني بحثت عنها.. وفي نفس هذا الموقع عدة مرات ولم أجدها.. وعندما أعلن ذلك لبناتي وحفيداتي.. يقلن لي (شالوها الجماعة.. نقلوها.. وردوها لك.. فأنا قد قصصت عليهم القصة.. وهم يعيشون معي فصولها، حاولت مرة أن أجري فرزاً لهذه الأوراق، بحيث استغنى عن بعضها.. وأحفظ البعض.. وفي المرحلة الأولى عبأت كيساً من البلاستيك.. في حجم الجوال (نص الأردب) من الأوراق التي أريد الاحتفاظ بها.. وقلت أواصل فيما بعد، ولكني قبل أن أخرج من الغرفة عنت لي خاطرة- وأنا دائماً مشغول بما يفعل أبنائي من بعدي بهذه الأوراق- قلت أوصي بها (الحاجة).. وخرجت لأبلغها (الوصية)، التي ليس لدي سواها.. قلت أسمعي (ياحاجة).. وعندها عاد لي وعيي.. وانفجرت ضاحكاً.. قالت منزعجة (مالك).. قلت مافي حاجة.. ولكنها كالعادة كانت (محمود الذي يريد أن يعرف).. فقلت: والله أنا كنت جايي أقول ليك أنا إذا مت.. ما تقعوا في الورق دا تمزيق، يمكن تكون في ورقة أنا دايرها.. نظرت إليّ وكأنها تقول (كلكّي ولا ماكلكّي)!؟.