من ضروب جمالِ لغتنا وبهائها تنهض باقاتٌ من المفردات والتراكيب التي تأسر الألباب والأسماع وتقف برهاناً على ثراء هذه اللغة ومكنون كنوزها الغالية، فمما يثير الإعجاب كلمةُ «النجم» التي وردت في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرةً في صيغ النجم والنجوم، وتناولت من المعاني وأبعاد الدلالات والمعجزات الكثير المثير للإكبار والتقدير. لقد دارت كلمة النجم هذه في ثلاثة محاور، هي نجم السماء الذي نعرفه ومما ورد في شأنه «وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يهتدون» النحل «16»، ونجم القرآن المتمثل في تدرج الأحكام، والمحورالثالث هو محور النباتات التي لاساق لها كالبطيخ واليقطين وغيرهما من زواحف النبت. إذا تناولنا المحورالثالث يطالعنا جمال السَّبك والحبك في صورة مشرقة مهداةٍ لنا من الآيتين الخامسة والسادسة من سورة «الرحمن» «الشمسُ والقمرُ بحسبانü والنجمُ والشجرُ يسجدان»، ففي الآية الخامسة يتَّسق ذكر الشمس والقمر بجامع الموقع وهو السماء، أما النجم والشجر فيبدو ذكرهما للنظرة غير المتعمقة ضرباً من التنافر بالنظر إلى الموقع، إلاَّ أن وقفة التأمُّلِ تُفضي بنا إلى معنى للنجم ينسجم مع الشجر وهو كما أشرنا من قبل النبات الذي لاساق له، يقول شاعرهم: أُراعي النجمَ في سيري إليكم ويرعاهُ في البيدا جَوادي أما نجوم القرآن التي تتمثل من بين ما تتمثل فيه من أبعاد ومعانٍ هي المواقع المتدرجة والمشيرة إلى عظمة التشريع وعلوِّ مكانه الذي جعله مؤهلاً ِلِقَسَمِ الرحمن جلَّ شأنه «فلا أقسمُ بمواقع النُجوم «75» وإنَّه لقسمٌ لو تعلمون عظيم 76» الواقعة. دعونا نقف عند درجات تحريم الخمر لنرى كيف نزل مُنجَّماً في نسق يراعي مجتمعاً كان غارقاً في شرب الخمر لدرجة يتعذر عليه الخروج من دوائرها «ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إنَّ في ذلك لآية لقومٍ يعقلون» النحل «67». إن الإشارة إلى وضع الرزق الحسن في مقابل السُّكرِ توحي أمراً مهذَّباً يدعو للإقلاع عن الخمر والانحياز لجانب الرزق الحسن، وينتقل النجم الثاني في انسياب وهدوء يراعي العادة الاجتماعية المتمكنة فيقول «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما...» البقرة «219»، ويأتي ثالث النجوم ليقتحم وقت التَّعاطي ويتناوله بالهدم فيقول «يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاةَ وأنتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون...» النساء «43»، وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت بعد قول أحدهم في صلاته وقد أخذت منه الخمرُ مأخذاً «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون»،أما رابعها فقد جاء في موقع يوحي بالعظمة وعلوِّ المقام، اجتمع نفر من المسلمين على مأدبة جَفَلى طعامها لحم الإبل وشرابها الخمر، فانتهت بقتال كان سلاحه عظام الإبل التي سبَّبت الجروح وأسالت الدماء. جاء عقلاء القوم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طالبين أن يريهم في الخمر أمراً قاطعاً وشافياً، وذلك بعد اقتناعهم بما كانت تسببه من كدرٍ وشوائبَ اجتماعية تورث النفوس أشكالاً من العداوة والبغضاء، فجاء قول الحق سبحانه وتعالى شافياً وقاطعاً (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون «90» إنما يريد الشيطان أن يُوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكرِ الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون «91») المائدة، هكذا جاء حرف «هل» في هذا الموقع بصيغة الأمر لا الاستفهام كما هو معروف به أي «انتهوا» فأقلع القوم عن الخمر يومها ولسانُ حالهم يقول: لقد انتهينا يا رب نهاية هي العهدُ المحقق والوعد الموثق. الجفلى هي الدعوة العامة والنقرى هي الخاصة.