والصادق النيهوم أعمق من كتب بالأبجدية العربية المعاصرة، يلخص تداعي الحضارة الإسلامية حضوراً وشهوداً.. ويرد أس العلة لعامل رئيسي هو غياب دور الجامع بوصفه كيان إداري تدار منه أمور الأمة صلاةً ونُسكاً وشريعة وحياة.. بيد أن النيهوم الذي مضى دون أن يكحّل عينيه بمشاهد الجموع الثائرة، وهي تخرج في تونس ومصر وليبيا - (موطنه)- واليمن وسوريا من جوامع ليس لها أسماء، ومعابد ليس لها أسماء.. جوامع كانت وحتى عهد قريب تدعو منابرها باستطالة أمد الحكام وإذلال عدوهم.. النيهوم الذي كتب بكل جرأة مقاربته من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟ لم يجد من يجيبه حينها من عوام العلماء، وعوام الدهماء أحداً، لتأتيه الإجابة ببيان ناصع من ثوار آثروا أن يخطوا رسائلهم بمداد الدم.. ومن غريب والمفارقة أن المساجد التي صارت تكتسي رمزية دالة ودلالة رامزة، وتجد تكريماً حقيقياً على مستوى الفعل والدور والتأثير ليس بوصفها دور تعبد وشعائر فحسب، بل وباعتبارها كذلك منبع إسناد قيمي يرفد مراكز القرار بالمنهج الصائب قبل الموقف الصائب، و يبعث هدايا للفكر قبل الفعل، المساجد التي نالت هذا الاستحقاق المأذون به من عند الله جلا وعلا آثرت الصين أن تهدم منها واحداً بأقصى شمال غربها.. المسجد الذي كان قد تم تشييده بجهود ذاتية من قبل عرقية الهوى المسلمة في بلدة تاوشان بمقاطعة نينشيا المحاددة لإقليم مانغوليا، تمت تسويته بالتراب في ظل استبسال المئات من المنافحين لهذا المسلك الشاذ.. حتى سقط دونه نحو خمسة أفراد، وأصيب العشرات، ونقلت بعض الصحف الصادرة في هونغ كونغ جنوبي الصين أن الاتصالات قد قطعت عن البلدة، وتم تعتيم شديد على تفاصيل ما حدث، وأن ما رشح لا يعبر عن حقيقة الموقف يقيناً، فالمأساة دوماً أعمق من براعة الإشارات، ودقة التنبيهات.. هذا الحدث على ما يحمل من بشاعة لا تحتمل لا يمثل واقعة معزولة، وإن كان يمثل تصعيداً غير مسبوق، فقد درجت المركزية الصينية القابضة على استهداف المسلمين الإيغور، وممارسة إضطهاد منظم لعرقيات مماثلة، كما تقول تقارير منظمات حقوق الانسان التي يتهمها كيشور محبوباني الدبلوماسي والأكاديمي المرموق بأنها تمثل مخالب قط لقوى متربصة، بصعود الصين وارتيادها آفاق الصدارة العالمية..الصين التي بدأت تسوّق نفسها كقوة سلمية، تضم بين طياتها عدداً من العرقيات المسلمة، يبلغ مجموعهم نحو 18 مليون مسلم يصلون في 30 ألف مسجد، حيث يرجع أول مسجد بني في الصين إلى عهد أسرة تانغ (618-907م) .. لهذه الحيثيات وغيرها كثير نرى أن هذا التصرف شاذ وموغل في الغرابة، لعدم اتساقه مع منظومة الأخلاق الكنفوشيوسية النافذة جداً بالصين، والتي تأمر أتباعها بأن يتصرفوا بجرأة ويتحدثوا بلطف، لكن ما هو أكثر غرابة أن هذه الواقعة على ما تحمل من مساس مباشر لرمزيات ومقدسات أكثر من مليار ونصف مسلم، لم تجد رد فعل يناسبها سوى بيان خجول من منظمة التعاون الإسلامي أعربت فيه عن بالغ أسفها لما حدث.. فلم نرَ في سوداننا الذي وفقما يحلو لقناة ساهور أكثر بلد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، يسير مسيرة أو يدعو لوقفة إحتجاجية.. هل صارت الشعوب ونخبها وفعالياتها تتعاطى مع الأحداث، بما ظلت تصم به الغرب في تعاطيه إزاءها بإزدواجية المعايير؟ وهل كان الأمر سيختلف لو أن هذه الواقعة حدثت في بلد أوروبي؟ ولأن المقدس حالة حميمة في الشعور أكثر من كونه حالة عميقة في الفكر، فقد كنا نظن- وبعض الظن إثم- أن الهيئات والحوزات والمجامع الإسلامية ستتخذ موقفاً ما، يعبر عن سخطها واحتجاجها على هذه الفعلة النكراء هل باتت الشعوب المستعيدة لدورها وذاتها الفاعلة تتعاطى مع معادلات المصالح لا نواظم القيم؟ أم أن ما سبق من احتجاجات لأحداث مماثلة في الغرب، كانت تندرج ضمن سياقات التنافس والمناجزة الحضارية؟ ولا تصدر عن مشكاة نصرة الحق بعيداً عن عوامل التضخيم والإيغال وتجريم الآخر.. الآن فقط أدركت لماذا أرجع الصحابة- عليهم رضوان الله- سبب الغثائية التي تجتاح الأمة لقصور في الذات، ولم يعلقوها على شماعة الآخر حين قالوا (هل نحن من قلة يومئذٍ) رحم الله نزار حين قال.. ما دخل الأعداء من حدودنا وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا.. أما آن لنا أن نستجيب لداعي الإمام، وهو يدعونا في اليوم خمس مرات ( سدوا الخلل، حاذوا بين المناكب والأقدام، إستووا يرحمكم الله !!).