عندما يلتقي زعماء الأحزاب والقوى السياسية اليوم مع شريكي الحكم بدعوة من رئيس الجمهورية، سيجد الجميع أنهم أمام لحظة تاريخية وفرصة نادرة، تتطلب أول ما تتطلب الصدق مع النفس ومع الشعب، الذي يعيش حالة استثنائية من القلق والانتظار، ويسيطر على وجدانه ومشاعره (توقع الأسوأ)، بعد أن أصبحت جميع المؤشرات تتجه- باصرار- نحو خيار الانفصال، بكل ما يحمله هذا الخيار من مخاطر واحتمالات قميئة، ليس أقلها نذر الحرب والتشطير والتشظي بالتداعي، تماماً كما يحدث مع أحجار في لعبة الدومينو (الضمنة)، عندما تتوالى حركة الانهيارات بالتتابع. وهنا، وفي هذه اللحظة التاريخية، لابد من تسجيل أن حكومة الوحدة الوطنية قد استهلكت وقتاً عزيزاً وثميناً في الصراعات بين الشريكين، التي صوبت جلها للمكاسب الحزبية أو الجهوية، عوضاً عن أن تكون تلك السنوات الخمس التي أهدرت، مكرسة لتعزيز كل ما هو إيجابي في اتفاقية السلام، التي هدفت أولاً وقبل كل شئ آخر، إلى وقف الحرب وتثبيت السلام والاستقرار المفضي إلى الوحدة والتعايش والتسامح بين كل أرجاء الوطن. ومع هذا نسأل برغم الأسف على الوقت العزيز المهدر، هل فات فعلاً الوقت، ولم يعد من سبيل للخلاص مما نحن فيه، ورفعت الصحف وجفت الأقلام و(قضي الأمر الذي فيه تستفتيان؟ ونجيب، كما أجاب نائب رئيس المجلس الوطني أتيم قرنق، أحد أبرز قادة الحركة الشعبية، والذي تناولنا مداخلته في ندوة مركز الدراسات السودانية في (إضاءة) الخميس الماضي، أنه لازال هناك متسع من الوقت- وكما قال- فإن الخمسة شهور المتبقية من موعد الاستفتاء كثيرة وكافية، لأن نفعل الكثير إذا ما صح العزم منا وخلصت النوايا، ووضعنا السودان ومستقبله في حدقات العيون.. فبرغم أجواء التشاؤم المسيطرة أعلن قرنق في تلك الندوة إن الوضوح والتعافي عبر آلية مصالحة وطنية مقننة، يمكن أن يصبح مدخلاً لجمع الشمل، وطريقاً للخلاص من خيار الانفصال، الذي تبنته نيفاشا ضمن بند تقرير المصير، مع تركيزها على أولوية الوحدة الجاذبة في عمل الشريكين.. وهذا في حد ذاته إقرار مبكر ومسبق من شريكي الاتفاقية، بأن الخيار الأفضل لمستقبل الوطن هو وحدته، بالرغم من الشرط السياسي الذي تتبناه الحركة الشعبية لهذه الوحدة وهي(الأسس الجديدة)، وهي أسس- كما نرى- لن تتحقق بين يوم وليلة، فهي مشروع نضال طويل لا يقتصر أمر انجازه على الحركة الشعبية دون غيرها من القوى السياسية الديمقراطية في طول البلاد وعرضها. لكن قبل ذلك دعونا نبني على ايجابيات الاتفاقية، وفي مقدمة ذلك انجاز الوحدة الوطنية- وحدة الإرادة والأهداف والمصالح العليا- عبر آلية للمصالحة الوطنية، يتم الاتفاق عليها في هذا اللقاء الموسع، بين ممثلي الحكومة وممثلي أحزاب المعارضة، والذي نرجو ألاَّ يقصي منه أي حزب أو تنظيم سياسي فاعل، لحزازات أو مكايدات سياسية، دعونا ننطلق من هذا اللقاء للاتفاق على منبر شامل للمصالحة الوطنية، مصحوباً بآلية للعدالة الانتقالية، عدالة لا تستهدف الانتقام أو التشفي، بقدرما ما تصوب لاظهار الحقائق والكشف عنها، والاعتراف بالأخطاء، تمهيداً للتصافي والتعافي، وهذا ما لم يعط أي قدر من الاهتمام منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل، وحان وقت الاتفاق عليه ووضعه موضع العمل، عسى أن يكون طوق النجاة الأخير لمركب الوطن. وهنا نقول أيضاً، للإخوة الحاكمين في المؤتمر الوطني، إن الطريق إلى الوحدة، لا يمر فقط عبر إقامة عدد من مشروعات التنمية أو البني التحتية في الجنوب في هذا الوقت المتأخر، وإنما عبر قرارات سياسية جوهرية تطمئن الجنوبيين، بأنهم لن يكونوا جزءاً (ملحقاً) بدولة ذات هوية غريبة عليهم، فشرطهم الأساسي- كما تعلمون- هو أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من دولة مدنية ديمقراطية، بدستورها وقوانينها الاتحادية، ومؤسساتها القومية، وأي محاولة للالتفاف على هذا الشرط السياسي الجوهري بهدف الإبقاء على نظام الحكم الذي أسسته(الإنقاذ)، لن يكون مقبولاً لدى الجنوبيين، مثلما هو ليس مقبولاً لدى القوى السياسية الديمقراطية الفاعلة في الشمال، فالتنمية العادلة والمتوازنة على أهميتها لن تكون بديلاً لنظام سياسي يؤسس لعلاقة متوازنة بين شطري البلاد، ويجعل الوطن مستوعباً لجميع أبنائه بغض النظر عن هوياتهم العرقية أو الدينية أو الثقافية. وهنا، نقول كذلك للإخوة قادة الحركة الشعبية، إن علامات الشقاء للجنوب والشمال متبدية في أفق الانفصال، وأن الوحدة هي صنو السلام وضمانته الوحيدة والأكيدة، وأن طموحهم في بناء سودان جديد لن يتحقق بالانفصال، إنما بترسيخ وتوسيع تحالفهم مع كل من يمكن التحالف معه في كافة أرجاء الوطن الموحد، للعمل سوياً من أجل بناء النظام الديمقراطي الكامل، الذي يؤمن الحريات الأساسية والمساواة والعدالة لجميع أبناء الشعب، وأن ذلك لا يتم بين يوم وليلة، إنما هو كفاح صبور ومتواصل وبصير، وأن الدول التي تحفزهم وتشجعهم علناً للانفصال اليوم، ستكون أول من يتخلى عن أهدافهم العادلة والمشروعة في التنمية والاستقرار والديمقراطية والحياة الكريمة، وإنها ستتخذ من الدولة الجديدة منصة للانطلاق نحو أهدافها الاستراتيجية الخاصة، تلك الأهداف التي لا تتحقق إلا بوسائل الهيمنة والاستغلال وزرع الإضطرابات حيثما يحلون يربتون على أكتافكم اليوم، ويبتسمون في وجوهكم إظهاراً للمودة والرحمة، ويضمرون شيئاً آخر وأنياباً جارحة وسامة، سوف يكشرون عنها في الوقت المناسب.. فلا تنخدعوا أيها الأخوة الأعزاء.