هناك حاجة ماسة للإنتقال من زحمة المبادرات الخاصة بالوفاق الوطني التي تكاد تسد أفق الساحة السياسية الى ممارسة عملية، ولتحقيق ذلك ليس هناك أفضل من العودة الى المصفوفة التي اتفق عليها المؤتمر الوطني والحركة الشعبية أواخر العام الماضي وبموجبها أنهت الحركة مقاطعتها للحكومة بعد التعديل الوزاري الذي أجرته على الحقائب التي تخصها. ويمكن الإشارة الى فقرتين رئيسيتين في تلك المصفوفة تلخصان ما ذهبنا اليه: الفقرة الرابعة التي تتحدث عن المصالحة الوطنية وتطلب من الرئاسة إنشاء لجنة قومية للشروع في وضع برامج عملية للمصالحة الوطنية. كما حددت فترة زمنية أن يتخذ القرار بإنشاء هذه اللجنة القومية في أو قبل التاسع من يناير المنصرم، أي أن خمسة أشهر تصرمت ولم يحدث شىء. وهناك أيضا الفقرة التي تليها وهي الخامسة التي تناولت قضية إطلاق مبادرة تحقيق الوحدة الطوعية وتعزيز الديمقراطية والمصالحة الوطنية. والإجراء المطلوب حسب المصفوفة قيام الشريكين: "إطلاق مبادرة الوحدة الطوعية وتعزيز الديمقراطية والمصالحة الوطنية التي تستهدف مشاركة كل القوى السياسية عبر مؤتمر يتمخض عنه ميثاق يكون الأساس للتمهيد لإجراء الإنتخابات في جو معافى تحقيقا للوحدة الطوعية والمصالحة الوطنية" كما جاء في النص. ويفترض من ناحية التوقيت الزمني أن يتم إطلاق هذه المبادرة في أو قبل التاسع من يناير، أي قبل خمسة أشهر. خلافات الشريكين لم تحظ بإهتمام يذكر من جانب القوى السياسية الأخرى، بل وجدها البعض مناسبة للتركيز على نقده لثنائية الإتفاق. ورغم ان الحركة الشعبية سعت الى الخارج على أساس ان العديد من الجهات الدولية تعتبر ضامنة للإتفاق ومن ثم عليها التدخل لإنقاذه، الا ان ما حدث في نهاية الأمر ان الحوار الثنائي بين الطرفين هو وحده الذي أدى الى التوصل الى إتفاق أنهت بموجبه الحركة خطوة مقاطعة الحكومة. لكن منذ ذلك الوقت طرح حزب الأمة مبادرته الخاصة بالتراضي الوطني كما يسعى السيد محمد عثمان الميرغني الى طرح مبادرة للوفاق الوطني الشامل ربما تكون المخرج لعودته الى الوطن. كما عقدت الحركة الشعبية مؤتمرها العام الثاني وأبرز نتائجه المصالحة الداخلية التي أجرتها بين مختلف التيارات التي تموج بداخلها ثم التأكيد على هويتها حركة سياسية لكل السودان وذلك في مواجهة التيار الذي يريدها منكفئة على الجنوب، الأمر الذي يعزز من التوجه نحو الوحدة. وقبل هذا كله لجنة الوفاق والمصالحة الوطنية التي يترأسها المشير عبد الرحمن سوار الذهب، وظلت تعمل لأكثر من عامين وبدون إتخاذ خطوات عملية رغم نشاطها في الإلتقاء بمختلف القوى وبلورة المواقف التي تحتاج الى تحويلها الى برنامج عملي. نقطة الضعف في هذه المبادرات انها بعيدة عن الجانب التنفيذي، وهو ما يمكن أن يتم تعويضه عبر العودة الى المصفوفة، حيث للشريكين القدرة على تحويل أي إتفاق الى واقع متى توفرت الإرادة السياسية. ويبقى التحدي في كيفية تجميع هذه المبادرات تحت سقف واحد، وتجريدها من منحى العلاقات العامة الذي كادت أن تنزلق اليه ومسعى كل قوة سياسية أن تتمحور حولها حركة الوفاق هذه. إن أهم خطوة يمكن أن تضع البلاد على طريق التعافي الخطوة المنتظرة العام المقبل بأجراء الإنتخابات، لكن بسبب حالة الإحتقان الناجمة عن أزمة دارفور وتلغيم الجو وضيق الوقت خاصة مع عدم إجازة قانون الإنتخابات أو القوانين الأخرى المتعلقة بالتحول الديمقراطي، فأن علامات الأستفهام تلفها، لكن يبدو المخرج فيما اشارت اليه المصفوفة وهو دعوة مختلف القوى السياسية الى مؤتمر يتمخض عنه ميثاق يكون الأساس الذي يهيئ الجو المعافى الذي يمكن أن تجري فيه الإنتخابات، وهي ذات دعوة حزب الأمة القومي بخصوص المؤتمر الجامع، وما ظلت لجنة سوار الذهب تسعى اليه دون نجاح يذكر. السؤال المطروح بقوة: لماذا لم ينفذ الشريكان إتفاقهما، ولماذا لم تتقدم أحاديث الوفاق هذه الى الجانب العملي؟. وهو سؤال مشروع قد يجد له ألف تفسير وتفسير على رأسها أسلوب رد الفعل الذي تتعامل به مختلف القوى السياسية مع الأوضاع والتحركات التي تتم في أطار زمني قصير الأمد. على ان الأمر الأكثر أهمية ان كل الترتيبات والبناء الدستوري والسياسي القائم اليوم في البلاد انما هو إجراء مؤقت تم من واقع الحال وبحسابات القوة ويفترض أن يفسح المجال أمام الإرادة الشعبية لتعبر عن نفسها فيمن يحكمها وكيف يحكمها من خلال بعض الآليات لتحقيق التحول الديمقراطي. واذا كانت الآلية الأولى لهذا الهدف هي الإنتخابات، فإن الحساب العملي يشير الى ان الوقت المتبقي للقيام بهذه العملية لا يتجاوز شهر مايو المقبل، واضعا في الإعتبار كل الترتيبات اللوجستية التي لابد من إنجازها. وهذا ما يضع عبئا اضافيا ويتطلب قدرا من التجرد ورص الصفوف لإنجاز هذه المهمة. ومع مختلف الصعوبات التي تحيط بالموقف، الا ان الذاكرة تستدعي ما شهدته حركة القوى السياسية في ديسمبر من العام 1955 وإتفاقها على إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان. تلك الخطوة أقامت الجمهورية الأولى بكل متاعبها وعثراتها. المطلوب الآن تجميع أحاديث الوفاق هذه عبر برنامج ينطلق من المصفوفة لفتح الباب أمام الجمهورية الثانية التي تحتاج الى إصطحاب التجارب السابقة لتنير طريقها نحو تحقيق شىء من الإستقرار وفق ثوابت تجد طريقها الى أرض الواقع.