(4) شُرم بُرم والناس غافلة والغفلة ع الأفهام قافلة والكدِب لعْلعْ في الحفلة وأغلب السامر مساطيل الله يا بدوي.. دُقِّ الشخاليل السوس تحت سقف العِشَّة وعضمة الغنمات هشة عايزين صابونة ومقشة وهات يا كنس وهات ياغسيل الله يا بلدي مشوارنا طويل هكذا صور شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم أحوال مصر قبل وبعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، تلك الصورة التي زادت دغساً على إبالة برحيل عبد الناصر المفاجيء والانقلاب السياسي الذي أحدثه خليفته أنور السادات أزاح آخر مظاهر الانتماء الوطني والتحرري لثورة يوليو، وعشعش في الأجواء الفساد، وتراجعت بسرعة لافتة موازين العدالة الاجتماعية وطهارة الحكم، لتقدم طبقة جديدة تحت مظلة الحاكم المطلق الذي ينتخب «شكلياً» كل عدة سنوات بترتيبات روتينية محفوظة أدمنها ما عرف في عهد حسني مبارك ما كان يُعرف بالحزب «الوطني الديمقراطي» الذي ليس له من الصفتين - الوطنية والديمقراطية - نصيب، حتى فاجأته «ثور 25 يناير» التي احتفى المصريون بذكراها الأولى أمس تحت شعارين رئيسين «استكمال مهام الثورة الديمقراطية» و«الانتصاف لحقوق أسر الشهداء والجرحى»، ولسان حالهم يردد مع شاعرهم العجوز الله يا بلدي «مشوارنا - لسه طويل». بالأمس، انتهينا، إلى «اعتراف» الدكتور أسعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب المنتخب أثناء خطبته الافتتاحية وهو يتسنم المنصب الكبير، بأن البرلمان الحالي «هو برلمان ما بعد الثورة»، ولا أدري إن كان التعبير مقصوداً أم هي هفوة في الصياغة لم يتحسب لها الكتاتني، لكنها في كل الأحوال تعبر عن الواقع الذي أفرزته الانتخابات النيابية المصرية. تلك الانتخابات، التي عايشنا جزءً منها، وتقدمت خلالها قوى التيارات الدينية المحافظة - الأخوان المسلمون بنجاحهم السياسي «الحرية والعدالة» والسلفيون «حزب النور» والجماعات الإسلامية المتفرعة عن الحركة الأم، وانتهت إلى هزيمة مدوية لحقت بالقوى الديمقراطية الليبرالية واليسارية، ابتداءً بحزب «الوفد» التاريخي وانتهاءً بأحزاب الكتلة المصرية وائتلافات شباب الثورة التي أطلعت بالعبء الأساسي في تفجير الثورة، وصمدت في الميادين حتى التحق بها «الأخوان» كأكبر كتلة سياسية منظمة، فجاءت الانتخابات من بعد ليكون الرابح فيها هو الأكثر تنظيماً والأوفر مالاً والأقدر على الحشد والتعبئة وبالشعارات الدينية، وربما كانت المفاجأة الكبرى هي صعود السلفيين «حزب النور» ليحتل المرتبة الثانية بالرغم من مواقفه المعلنة والمعروفة في ممالاة النظام القديم وفتاواه المشهورة عن «حرمة الخروج على الحاكم ما لم يُرى منه كفر بواح». نتيجة الانتخابات جاءت إذن لتعكس المفارقة بين حقائق الثورة وأهدافها في «العيش والحرية والكرامة الإنسانية»، وقواها الحية المتمثلة في شباب الثورة الذين مثلوا طليعتها ودفعوا دماءهم رخيصة في سبيل ذلك، والمتمثلة كذلك في القوى التي لم تتوانى في مصادمة النظام القديم على مدى سنوات كحزب الكرامة وحزب الغد وحركة كفاية وتحملت عنت النظام وجبروت أجهزته القمعية.. لكن يبقى السؤال الكبير، لماذا حدث ما حدث في انتخابات أعقبت ثورة مجيدة كثورة 25 يناير، وفي أجواء النهوض الثوري والربيع العربي الذي عم المنطقة وفجر أشواق شعوبها للتحرر والانعتاق؟ (5) نعم، هو كما قال الكتاتني، «برلمان ما بعد الثورة» وليس برلمان الثورة، وأسباب ذلك عديدة، في مقدمتها التركيبة الاجتماعية للشعب المصري، فمصر الدولة المركزية الأولى والأكبر في المنطقة، أنفردت بعدة خصائص إلى جانب مركزيتها التي أفرزتها الجغرافيا والديموغرافيا التي حصرت شعبها الكبير «نسبياً» في شريط ضيق، حتى شاع القول إن «مصر هبة النيل»، ومصر عرفت ربما خلافاً لمعظم الدول العربية، نمط الإنتاج الإقطاعي، إقطاع تحكمت به عبر الأزمات طبقات وافدة وغازية لمصر حتى صار لقب «الفلاح» أو المواطن المصري الريفي معادل لصفة «الأقنان» أو «عبيد الأرض» الذي عرفته المجتمعات الإقطاعية الأوربية والآسيوية في دهور سابقة. وفي كنف ذلك الإقطاع وبعد استتباب النظام الملكي في عهد محمد علي وأبنائه وأحفاده بدأت تتبلور الطبقة الرأسمالية الصناعية القديمة التي اعتمدت في انتاجها على المخرجات الزاعية، والتي جاءت ثورة يوليو لتطيح بها مع النظام الملكي واقطاع الباشوات عبر الإصلاح الزراعي والإجراءات الاشتراكية، التي ما لبث نظام السادات - مبارك وعبر إجراءات مضادة تمثلت في ما عرف ب«التحرير الاقتصادي» والخصخصة من الانقلاب عليها بشكل كامل واستعادة النظام القديم «في ثوب جديد»، ارتبط هذه المرة أيضاً برهن حرية مصر الاقتصادية والسياسية للقوى الأجنبية ومخططاتها الإستراتيجية التي تولي كسابقاتها - في الاستعمار القديم - مصر أهمية خاصة بالنظر لموقعها المتقدم والأهم في خريطة الشرق الأوسط الجيوسياسية. هذه الأجواء السياسية والاقتصادية هي التي هيأت ل«الإسلام السياسي» المتمثل في «حركة الأخوان المسلمين» فرصة الانطلاق باكراً في العهد الملكي، وهي التي دفعت الحركة لأن ترى في حركة الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر مدخلاً لحل أزمة البلاد فتحالفت مع الثورة والثوار ابتداء، ثم انقلبت عليها بعدالتأكد من توجهاتها التحررية والاشتراكية، وظلت تنافح وتكافح حتى غدت أهم وأكبر الحركات السياسية المنظمة في البلاد، ثم انتشر أثرها عربياً وإسلامياً مما رفدها بدعم وكسب كبير، خصوصاً بعد أن أثرت دول عربية محافظة مع تصاعد أسعار النفط، فوجدت في تلك الدول حلفاء طبيعيين في مواجهة النظام الناصري. فغدت الحركة الأكبر تنظيماً وقدرة على مواجهة خصومها وتوسيع تأثيرها الاجتماعي والسياسي. ما ميز حركة الأخوان في مصر، خلافاً لخصومها من الديمقراطيين (تقليديين ويساريين وحداثيين)، هي أنها سخرت إمكاناتها التنظيمية والمالية الوفيرة للارتباط بالطبقات الشعبية الأشد فقراً، فمضت تبني المستشفيات ودور العبادة والإغاثات المتنوعة والخدمات التعليمية في إرتباط وثيق، وإن بدأ غير مباشر في أحيان كثيرة، مع دعوتها السياسية، فالناس في الأحياء الفقيرة والتجمعات العشوائية يعرفون «الأخوان» وربما «السلفيين» لاحقاً أكثر مما يعرفون قوى الثورة والديمقراطية، التي أنحصر جل نشاطها، وعلى مدى عقود طويلة في خطاب نخبوي محصور الأثر، موجه بالأساس للشرائح المتعلمة عبر الصحف وأجهزة الإعلام والندوات الصفوية، وتركت الساحة والعمل الجماهيري الأوسع والمباشر للقوى والتيارات الدينية، على عكس ما هو متوقع من قوى تدعي أنها تدافع عن حقوق الفقراء والمضطهدين. هذه القوى الديمقراطية - القديمة والجديدة - عندما حانت لحظة الحقيقة وأوشك النظام القديم على الانيهار، بفعل فساده وتصلب شراينه وضمور قدرته على الصمود والاستمرار، تقدمت المشهد - كطليعة فعالة - وتمكنت بالفعل من إسقاط النظام، بعد أن التحقت بها التيارات الدينية ذات الخصومة التاريخية مع النظام، لكنها اكتشفت بعد أسابيع قليلة على سقوط النظام، أنها لا تملك الشارع وأن كسبها الجماهيري محدود، وأن القوى الأكبر تنظيماً وأوفر مالاً هي التي تستطيع تحريك الناس وحشدهم وتعبئتهم لتنفيذ أهدافها السياسية، وأن «علوق الشدة»- الوجبة التي تقدم للجواد لحظة الاستعداد للرحيل - ليست كافية لبلوغ «حصان الثورة» إلى نهاية المشوار، فمعينه ينفذ وطاقته تتبدد قبل أن يقضي وطره. (6) الآن وقد أصبح لمصر برلمان منتخب، انتخاباً حراً ونزيهاً لم تشبه إلا القليل من التجاوزات، برلمان افتتح أعماله مع مرور الذكرى الأولى للانتخابات، ومنوط به وضع دستور دائم - كمهمة مركزية - وجاء معبراً عن التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد، نجد أن جميع المصريين، ومن خلال معايشة امتدت لنحو شهر، مقتنعون بتلك النتيجة، باعتبارها إحدى تجليات الواقع الفعلي، بالرغم من من إدراكهم بأن مثل هذا البرلمان ليس هو «برلمان الثورة» ولن يكون وحده كافياً لاستكمال مهام الثورة، ومن هنا جاء «الاحتفاء» وليس فقط «الاحتفال» بذكرى الثورة ليطلق شعارات «استكمال مهام الثورة» و«الانتصاف لحقوق الشهداء والجرحى» واسترداد أموال ومقدرات الشعب المنهوبة عبر محاكمات جديدة وحاسمة بالإضافة إلى تسليم السلطة للمدنيين، وهو الشعار الذي رأى فيه بعض المحللين، نافذي البصيرة، استعجالاً جانبه التوفيق من جانب شباب الثورة، الذين يضعون بذلك «بيض الثورة» في سلة برلمان تغلب عليه قوى دينية محافظة ويخل بفرصة التوزيع المطلوب للسلطات التشريعية والتنفيذية الكفيلة بخلق حالة توازن يهيئها وجود أكثر من مصدر للسلطات يتمثل في وجود مجلس عسكري أعلى يعبر عن الجيش المصري، ذي الدور غير المنكور في الحياة السياسية المصرية منذ أن كانت ثورة يوليو 1953. مجلس الشعب «برلمان ما بعد الثورة» هو جزء من منظومة سلطة لم تكتمل، ولم يؤسس على دستور دائم، وهو غرفة من غرفتين للنظام التشريعي المرتقب، والذي من المنتظر أن يستكمل بانتخاب «مجلس شورى»، وهو بحكم «الإعلان الدستوري» لا يملك أن يقيل الحكومة أو يحاسب الوزراء، مثلما لا يستطيع المجلس الأعلى أن يحل المجلس، وتلك هي حالة توازن قائمة وهشة، تؤكد ما يذهب إليه شباب الثورة بأن الثورة لم تكتمل، فمجلس الشعب على سبيل المثال لم يجد ما يجيب عليه في مطلب «حقوق الشهداء والجرحى» أكثر من تشكيل «لجنة لتقصي الحقائق» في أول جلسة انعقاد له، فماذا عسى مثل هذه اللجنة أن تفعل في وقت تمضي فيه المحاكمات على قدم وساق لرموز النظام القديم، فمثل هذه اللجنة لن تكون في أفضل الأحوال أكثر من «لجنة متابعة» ترفد المجلس بما يجري في أروقة القضاء لا أكثر، في محاكمات علنية ومفتوحة. في كل الأحوال لابد من الاحتفاء بثورة 25 يناير، أو الانتفاضة المصرية التي أطاحت بقمة هرم النظام القديم، وفتحت الطريق أمام حراك شعبي وجماهيري واسع لن تتمكن المؤسسات القائمة من قمعه أو وقفه، فتحت باب الحريات الأساسية وحق التظاهر والاعتصام والتعبير عن الرأي بجميع وجوهه، وقبل هذا وذاك خلعت عن الإنسان المصري أردية الحذر وكسرت حاجز الخوف والرهبة ووضعته أمام مسؤولياته لتقرير مصيره.. وتلك هي بداية المشوار، الذي هتفت له «الفاجومي»: الله يا بلدي.. مشوارنا - لسه - طويل!