الأُمِّيةُ كلمة نطلقها على غير المتعلمين قراءةً وكتابةً، ونسعى إلى مَحوها، ونُقيم لها من المؤسسات ما يلاحقها ويجتثُ جذورها؛ هذا السلوك في ظاهره لا غبار عليه إذا صاحبه التعمُّقُ في معنى الأُمِّية، والعمل على حجب الاسم «محو الأُمِّية» عن طمس معنًى لها لعلَّه يكون مشرقاً إذا اصطحبناه ونحن نبرمج لتعليم غير المتعلمين، فالأُمِّية منسوبة إلى الأم وما تُوِّرثُه لأبنائها من مجموعةٍ سلوكيةٍ هي تراثٌ يُضمِّخُ حياةَ الطفل ويَبْقَى معه حتى مرحلة ما نسميه بدَرَج بداية محو الأُمِّية عاجلاً كان ذلك أو آجلاً؛ نحن في حقيقة الأمر لا نمحو الأُمِّية بمعنى إزالتها، أو يجب الاَّ نمحوها بهذا المعنى، بل نصطحبها لكي تساعدنا على تعليم صغارنا في مراحل التدريس النَّمطي، وتعليم الكبار الذين لم يدركوا قطارات التعليم في محطاتها الابتدائية. كانت الأُمِّية شرفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم فجعلت منه أمةً بكلِّ خصائصها الفاضلة من سمات القيادة والقدوة «الذين يتَّبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر..» الأعراف «157» ووقفتُ شاهداً على تبرئته من تلقِّي العلم على يد بشرٍ لتقول لنا هذه الأُمِّية: هذا هو دوري في الرسالة المعجزة، وتشير إلى أهمية تنشأة صغارنا على مبادئها وتضمين مناهجنا عمقاً داعياً لطهارة الفطرة وتنمية موروثاتها التي يشِعُّ ضؤها خلال عمر الإنسان ما لم نعمل على إطفائه بالدخيل من المناهج بدعوى الحضارة ومواكبتها. أذكرُ مثالاً من أمثلةٍ عدةٍ صادفتني في حياتي وهي تنِمُّ عن قوة الاستعداد الفطري. كنتُ أجمع مادةً لرسالة الماجستير، وبينما أنا في انسياب من الحديث مع أحد الشعراء جاء ابنه يبكي وهو يقول: أبويْ أنا جيتك بىَ زعل، وماشِّي لىَ عبود البطل، أقولُّه الوالده أحمتني البصل، كان ما أنصفني أشَّالَّه أتعزل. لقد أودع الله سبحانه وتعالى هذا الإيقاع في رُوع هذا الطفل ليُعبِّر عَن رأيٍ وَتفكير من العمق بمكان يدعو إلى الانتباه لتوجهاته، ومداخل تنمية معرفته، ورعاية أُمِّيته في مراحل تعليمه. ومن تجاربي قصتي مع ابن عمي الذي أُدخِل المدرسة الأولية فرفض ترداد الحرف من اليوم الأول، وعندما سألناه سبب الرفض قال مامعناه: إذا نطقتُ بحرف الألف اليوم سيأتيني الأستاذ بحرف آخر غداً وغيره بعد غدٍ ثم يأتي ليسألني عن الحروف وإذا عجزتُ عن معرفتها انهال عليَّ ضرباً، فأنا أرى ألاَّ أدخل في التجربة، ابتداءً إذا تعمقنا في رأي هذا الطفل سنخرج بدروس عِدَّة أولها هذه الفطرة المشعَّة من الأُمِّية بروح الدفاع عن النفس والابتعاد عن بؤر المشاكل، وبرغم سلبية هذا السلوك فإنه لا يحجبنا عن تجربة هذا الطفل الميدانية التي رأى خلالها أقرانه يُضرَبون إذا فشلوا في الإجابات الصحيحة من خلال نمطٍ تلقيني ممل لا يرى فيه مشوِّقاً ولا يلمس فيه متعة. مما تقدم أرجو أن أكون قد أبنتُ أهمية البيئة النفسية والعقلية للمتلقي وهو يعتلي درج تعلُّم الحروف في مراحل العمر، فليس الأمر كما يراه البعض تلقيناً آلياً، فالزارع عليه قبل أن يضع البذرة في التربة أن يعلم خصائص هذه التربة، ومدى استعدادها لتبنِّي أمر هذه البذره، وما تحتاجه من مواد تزيد من خصوبتها، والمعلم عليه أن يدرك على مدى مراحل التعليم الوضع النفسي للمتلقي مع خصائص ما يقدم من مادة لهذا المتلقي، فهذه الحروف التي يقدمها لها هويتها المتمثلة في أسمائها ومسمَّياتها، فاسم الحرف غير مسماه، إن قوله تعالى في سورة البقرة «الم ذلك الكتاب لا ريب فيه» غير قوله تعالى في سورة الفيل «الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل» ففي سورة البقرة أسماء الحروف «ألف، لام، ميم» وفي سورة الفيل مسمياتها «أَ، لَ، أمْ»، فالأسماء ثابتة والمسميات تنزل المنازل وفقاً للمعاني والمرامي، فالْيسبر المعلمون معاني الحروف ومبانيها، وأسماءها ومسمَّياتها ليعلموا أن تعليمها عبادة وليس بقهر متبوع بضرب؛ إن ابن عمي لم يرفض القراءة كراهةً وإنما رفضها لأنه علم أن وراءها عقاب، ومدرسة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام قد أشعرته بالطمأنينة وهدوء النفس، وهذا ما قاده للقول: ما أنا بقارئ ولم يقل: لن أقرأ كما قال ابن عمي المرعوب، وشتَّان بين الاجابتين؛ ماذا كان رد الرحمن جلَّ شأنه: إقرأ باسم ربك الذي خلق، ولم يقل باسم إلهك لأن الإله رمز التكليف ثواباً وعقاباً، والربُّ رمز التربية والتعليم والرعاية والرحمة، فسبحانك ربنا لك الحمدُ على القدوة المجسَّدة في قائدنا عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم.