رأي : بروفسير الفاتح الطاهر دياب: في الخمسينيات.. العصر الذهبي للأغنية السودانية وفي ظل سيطرة الراديو على الانتاج الفني، ووسط مجموعة كبيرة من العمالقة الكاشف- أحمد المصطفى- التاج مصطفى- عثمان حسين- وابراهيم عوض- ظهر محمد وردي ليتلمس أولى خطواته في مجال الغناء، وقدم أعمالاً مبتكرة في شكلها ومضمونها، تمرد فيها على تقاليد الغناء السائدة، آنذاك فملأ الساحة الفنية بحضور طاغٍ ومذاقٍ متميز وفلسفة خاصة، فكان علامة فارقة في مسيرة الأغنية في بلادنا. البداية: في منتصف يوليو عام 1957 بدأ مشوار وردي التنويري، رصداً للواقع بكل معطياته السلبية والإيجابية، وغوصاً في أعماقه، بحثاً عن الجديد، فكان كل عمل يقدمه يعتبر إضافة جديدة، وخبرة جديدة، ومكانة فنية جديدة، وجماهيرية أكثر تألقاً وتأكيداً على النجاح، وبعد كل خطوة أو إضافة يحققها يقف مع نفسه ويعيد حسابه وترتيب أوراقه، حتى تكون خطواته أكثر وثوقاً، ويقول «كل ما أصبو اليه هو النجاح وحب واحترام وثقة الجمهور بي» لقد فهم وردي أن النجاح له حسابات لا يعلمها أحد، وبالتالي فعليه أن يسعى لتحقيق الجيد، ويترك النجاح للظروف وحدها.. المهم دائماً إحساس الفنان بأن ما يقدمه يحترم فيه نفسه وفنه، وجمهوره، وأن الفن عطاء لا أخذ.. فقدم برؤية ثاقبة، وبايقاع متوازن في نهاية الخمسينيات عدة أعمال متميزة، نذكر منها «لو بهمسة» و«بعد ايه» و«نشيد الاستقلال» و«هام ذاك النهر» وكانت تلك من أميز وأمتع مراحل حياته الفنية، وبفضل موهبته اللحنية التي تزيدها خبرة السنين بريقاً، وبتميزه بشخصيته القوية وثقافته الرفيعة، وأدائه السهل الممتنع، وملامحه المرنة، وطبقات صوته الواسعة، وبموهبته الأصيلة بتنوعه المستمر في أعماله، وصل وردي في نهاية الخمسينيات الى الصف الأول وسط أقوى واضخم جيل في تاريخ الأغنية السودانية، فأثبت أن الجمهور يبحث دائماً عن الفنان الذي يحترم عقله ومشاعره ووجدانه، فالفن دائماً وأبداً هو الامتاع والإفادة. وردي والسياسة: بعد قرار تهجير أهالي حلفا من منطقتهم الى خشم القربة في أوائل الستينيات، عارض وردي القرار، وخرج في مظاهرة ضمت الآلاف من أبناء حلفا، فاعتقل، ثم أفرج عنه بعد أسبوعين، فبدأ وعيه السياسي يتفتح وينمو، يدرك أن السياسة مرتبطة بالفن، ومن خلال الفن بدأ وعيه واحساسه الوطنيين في التشكيل المتسارع، مما صقل أصالته الشعبية، وتفجر كل ذلك من خلال مشاركته الفعالة في ثورة اكتوبر عام 1964م وكان من الطبيعي والضروري أن يكون هناك فنان يعبر عن تلك الثورة وأهدافها، خاصة والأغنية الثورية قادرة على احتواء معاني الفعل الثوري بأفضل من أي مقال سياسي صاخب، وكان وردي ذكياً يفهم مزاج الشعب في مسيراته وفي هتافاته، وما يحتاج اليه ويعرف مقاييس الأغنية الوطنية، وقد حشد لأجل ذلك مجموعة من العناصر يمكن تلخيصها في: التلقائية والوضوح- العفوية في التعبير- التفاؤل المشرق- البساطة في التلحين- استخدام الأوزان الخفيفة الراقصة- مرافقة الرقص الجماعي الحماسي لبعض أشكالها- التعبيرات المشرقة في كشف الغضب والتمرد والرفض- طرح مفاهيم الثورة وطموحات الجماهير. فقدم «أصبح الصبح»، «أكتوبر الأخضر» و«ثوار اكتوبر» واستطاع أن يطوع أصعب الكلمات ذات المعاني والمفاهيم السياسية، الى جمل لحنية رشيقة سهلة الحفظ، لتصبح في اليوم الثاني أغنية الشارع يرددها الرجال والنساء والأطفال، الى جانب أعمال زميله الفنان الكبير محمد الأمين المتميزة، والواسعة الانتشار، إن تفاعل الجماهير مع كل ما كان يقدمه من أعمال وطنية ملأته ثقة بنفسه، وضاعف من حبه وعشقه للفن، كما يقول هو نفسه، ثم بدأت أواخر الستينيات مرحلة جديدة في تاريخ الأغنية السياسية، أصبح المجال واسعاً، وكان وردي أحد مبدعي تلك المرحلة، بل مبدعها الأول فقدم أجمل الألحان التي رددتها الجماهير آنذاك، وبعد اخفاق الحركة التصحيحية في يوليو عام 1971 أعتقل لمدة تزيد عن العام، وفي ظلام السجن ازدادت قناعة وردي بأن يواصل نضاله ضد النظام المايوي مهما كان الثمن، وبعد خروجه من السجن أخذ يهاجم مايو والمايوية بألحانه المتميزة، مما جعل جهاز الأمن القومي يضع اسمه على لائحة المغضوب عليهم وتحت الرقابة المستمرة، كانت حالته المادية في تلك الفترة سيئة للغاية، فطرد أطفاله من المدارس لأنه لم يكن قادراً على دفع المصروفات الدراسية، وقاطعت الإذاعة تسجيلاته، وكذلك التلفزيون، وكان القائمون على أمر المناسبات والمسارح يخشون غضب السلطة، فلا يجرؤون على دعوته لاحياء حفلاتهم، ولكن وردي لم ينكسر بل ظل يغني لأصدقائه ومعارفه في السودان وخارجه، أغنياته التي كان يغنيها ضد مايو مستخدماً ذات القوالب التي كان قد صب فيها أغنياته لمايو في أول عهدها، عندما كان مؤمناً بأهدافها، واحتفظ بالشكل وغير المضمون- أي احتفظ باللحن وغير الكلمات- وهذه الأغاني معروفة لدينا ومضامينها تعني أن مايو مثل نوفمبر، خيبت آمال وتطلعات الجماهير، ولابد من ثورة تعيد الديمقراطية المغتصبة، واقترب بتلك الأغنيات أكثر فأكثر من الشعب، يحس ألمه ومعاناته ويلمس بنفسه أحزانه وتعطشه للحرية. قمة النضوج: أما أغنياته العاطفية في هذه المرحلة قد بلغت قمة النضوج، والعمق والجدية فقدم «الود» عام 1970م و«قلت أرحل» عام 1971 و«أسفاي» عام 1973م «أناديها» عام 1974م و«جميلة ومستحيلة» عام 1976م و«الحزن القديم» عام 1979م و«الوتر المشدود» عام 1980م كما قدم أغنيات وطنية حوربت من قبل جهاز أمن الدولة هي «وطنا» و«عرس الفداء» وكان موفقاً كعادته في اختياره للأغنيات وفي وضعه لألحانها، حتى في اختياره لعازفيه، فتميزت تلك الأغنيات بالجمال والثراء اللحني والدقة، والتوازن بين النصوص الشعرية، والجمل اللحنية، فكانت أعمالاً فنية متكاملة أحبتها الجماهير ورددتها بشكل عاصف، وأشاد بها النقاد. غناء مابعد الانتفاضة: بهذا المفهوم بدأ وردي مع رفيق مشواره الشاعر محجوب شريف مرحلة ما بعد الانتفاضة فقدم أغنيات للوطن والثورة، وارتقيا بالأغنية الوطنية من واقع مجتمع مارس/أبريل فكانت الأعمال الكبيرة «بلا وانجلا» وغيرها. فنان افريقيا: لقد شارك وردي في تربية وجدان الشعب السوداني، بل أصبح واحداً من أبرز رموز الثقافة الغنائية في عالمنا العربي وافريقيا، بأغنياته المتميزة المتفردة، وأحد رموز السودان الدالة على رقيه وتحضره الفني، وبتغلغله العميق في وجدان الناس وعقولهم صارت أعماله من أكبر التأثيرات على حياة الناس، بما تشتمل عليه من قيم تؤكد قامته كفنان مثقف، زود نفسه بوعي عظيم وعرف كيف يوظف طاقاته الهائلة- لقد حمل وردي ببراعته وثقافته أمانة كبيرة وهي رفعة السودان، والتعبير عن حضارته بأصدق صورة، أمام أعين العالم من خلال جولاته الفنية الناجحة، ونتيجة لذلك نال جائزة فنان افريقيا الأول، ولوردي نظرة فلسفية للحياة وللوطن، فهو يريد أن يعيش أهل السودان في عصر النوافذ والعيون والآذان المفتوحة، يريد الحريات بلا حدود، والخيال الوثاب أيضاً بلا حدود، يريد الطلاقة للعقل والوجدان، والأفكار حتى يستطيع الإنسان أن يبدع في ظل ديمقراطية معافاة، فالديمقراطية عنده بما تضمنه من حرية التفكير، -حرية التعبير- وحرية اتخاذ المواقف لايجب أن تكون محل مساومة. ندعو الله من أعماق قلوبنا أن يتقبل وردي وأن يرحمه رحمة واسعة، فقد عاش رحمة الله عليه رمزاً ورائداً لمسيرتنا الفنية وسيظل بإذن الله. üخبير ومدير سابق لمعهد الموسيقى والمسرح