هكذا يطويك عنا الردي واقفاً مثل نخيل الشمال، وسامقاً وشامخاً عصي الإنكسار، فهل كنت فينا النيل القديم، أم كنت فينا الألق المقيم، أم كنت فينا الوتر الحميم، الذي شدا بحب الوطن وحب الحرية، وأناشيد الصمود.. هكذا يطويك عنا الردي، فيرتخي وتر الربابة، فهل من بعدك من يشد الوتر، ويعلمنا كما طفقت تفعل- منذ نصف قرن مضى- كيف يكون الغناء، وكيف يكون الفداء، وكيف يكون الفن.. لقد كنت الغمام الذي بلل جيلنا بالندى، وكنت الأريج الذي عطر أرواحنا بالشذى، وكنت من يبشرنا «والعمر يمضي» بزمان جميل آتٍ، فمن يا ترى يحمل من بعدك رأيتك ويمضي بنا إلى الزمان الذي وعدتنا به، والحدائق الوارفات والطلال الباذخة. ياصديقنا وصديق أهل بلادك عرضاً وطولاً، كيف تمضي ولما ينعم الأحباب منك بالمزيد من الاشراق والتوهج، وقد ألفوا منك التدفق والإنهمار، فما أنت إلا وابلهم وغيثهم المدرار، فكيف يحتويك الغناء.. هل يحتوي الغناء النهر العتيق والأغاريد البديعة والإنبهار.. هل يحتوي الغناء الجبال.. أم هل يحتوي الغياب البحار.. من من أهل بلادك- وهم بالملايين- لا يحمل عنك ذكرى.. يعرفونك وتعرفهم فقد كنت صوت حدائهم إن غضبوا وإن فرحوا.. وإن وقفوا في وجه العواصف، وإن ركنوا للشجن ذوباً وهياماً، فمن نبعك الذي تدفق نصف قرن من الزمان وأكثر يغترفون من كل لون.. لي معك محطات من الإلفة والوداد عبر الزمان، ولا أدعيك وحدي.. فلكل أهل بلادنا معك مواقف وحكايات ووداد، فأنت صنو نيلهم العظيم ،الذي لا ينفرد بامتلاكه أحد.. شدوك أيها الراحل الكبير تدفعه ينابيع غمرت فجاج بلادنا وتعدتها لبلاد تحيط بها من كل ناحية وفج عميق.. وجميعهم يتحدثون بلسان غير لسانك، ويترنمون بلسانك، فيالك من عبقري عجيب!. ينطوي برحيلك زمان الطرب النبيل.. فمن ياترى يظلل بالشدو الجميل ما تبقى لنا من زمان.. لقد شب جيلنا من سن اليفاعة في حدائق موسيقاك، وإبداعك البديع، وظلت ينابيعك مترعة والزمان يمضي بك وبنا.. ثم ها أنت تمضي إلى الله وخلفك إرث من العطاء الدافق، وكأنك جحفل من المبدعين، نفتقدك اليوم أيها الأمبراطور العظيم: ( إلا بس الدنيا ماشة بس مشيك زي السحابة الببقى فينا عبق دعاشة كانت الألحان بترقص في جوانحك زي فراشة والحروف وكتين تقوله بتزهى بي لون البشاشة كنت للأنفس رحيقة وكنت للروح انتعاشة ياجوداً ظل يصهل وعمرو ما وقف صهيلو لملم أفراحنا وعتابنا ودون وداع فارق خميلو الطرب بعدك تيتم يلقى وين ألقو وهديلو المغنى القامة روح وفينا خالد سلسبيلو وكلمة أهلاً بالمغنى بكرة تصبح ياحليلو) وداعاً محمد عثمان وردي.. إلى جنات الخلد.