تمر الهبوب معروف عند أهل الشمال ومناطق زراعة التمور، إنه ساقط التمر بفعل الرياح، فأى تمرة تسقط لم تعد لصاحب التمر، وإنما هي رزق حلال ساقه الله لمن يبكِّر (بلقيط) هذا التمر وجمعه لصالحه، ويتسابق الناشئة والمقيمون بالمنطقة الذين لايمتلكون نخلاً على تمر الهبوب، فيملأون منه قفافهم وأوانيهم، ويتجمع هذا التمر شيئاً فشيئاً حتى يصل عند بعضهم مايقارب حصاد الملاك. وصدقات التمر كثيرة، فبالإضافة الى تمر الهبوب، فالتمر فى شجره حلال على الماشي، والغاشي، والجائع، والفقير، كما الدعاء الذى يذكر جهراً عند زرع شتول النخيل، فلا تجريم أن يمد ضيوف المنطقة أيديهم الى (شخاليب) الطيب من التمر، ومسموح حتى تمتلئ الجيوب لأنه لن يتجاوز الأكل. قابلت قبل سنتين أحد أساتذة الجامعات من أبناء منطقة التمور، بعد أن أحيل للمعاش لبلوغه سن الستين، وكان قد حقق أعلى درجة فى سلم التدريس الجامعي (البروفيسور)، سألته عن أحواله (فحمد الله) أنه يلقط فى تمر الهبوب، ففهمت توريته أنه يشارك برأيه وفكره وعلمه فى المنتديات، والمؤتمرات، والمقابلات الإعلامية، وورش العمل، ومناقشة الرسائل الجامعية ...الخ، ولأن تمر الهبوب قد يسقط فيسبقك عليه من سبق وبكر، وقد تأتى الرياح ولا يسقط فترجع بقفتك خاوية. الأستاذ الشاعر مصطفى سند أحسن الله إليه، كان بيننا مودة توثقت بعد أن كان ينوب عني فى رئاسة لجنة بمجلس الصحافة لأربعة أعوام، أهديته ذات رمضان نوعاً فاخراً من التمر، ليقدمه لمجموعة أدباء وشعراء، كانوا على مائدته الرمضانية، فكانت مناسبة أن أحكي له حكاية تمر هبوب البروفيسور، وكنت أعرف أنه ممن يذهبون الى المنتديات، والندوات، والمقابلات، ولا يعود بتمر، فحكى له حكايته مع قناة تلفزيونية خليجية، ذهب إليها ضيفاً على برنامج ومعه شاعر عربى معروف، وفى صالة الضيافة أبلغ الشاعر العربي منتج البرنامج أنه لن يدخل الاستديو إلا بعد أن يستلم مكافأته، وكان أن أجيب طلبه، وشمل الأمر الشاعر سند، الذى ما كان ليطلب ذلك لحياء السودانيين.. المنظمون للندوات، والمؤتمرات، وورش العمل، والحلقات الدراسية، والدورات التدريبية، وحتى المقابلات التلفزيونية، ينفق الكثير من هؤلاء على كل مطلوبات نجاح هذه الفعاليات، إلا على الرأي والفكر والعلم، إذ يعود أهل ذلك الى بيوتهم ومقار عملهم وفى النفس حسرة من عدم مكافأة مؤهلاتهم، وخبراتهم، وصنعتهم، التى أعدوا أنفسهم، وأعدتهم جامعاتهم، ودور العلم، والتدريبات الداخلية والخارجية لها، وأن رزقهم الحلال كتبه الله لهم فى عقلهم، وألسنتهم، ولا دخل إضافي لهم إلا ممن تنفقه عقولهم وألسنتهم.. الحياء يمنع العلماء والمفكرين والمبدعين من تحديد مقابل لوقتهم الذى يسخرونه للفائدة العامة، ولفائدة المنظمات والهيئات، والمؤسسات فى القطاع العام والخاص، التى تطلب اسهاماتهم ومشاركاتهم، التى عليها أن تكرم العلم والإبداع وتقدره، لأنها تحصد ثمرة وعصارة وخبرة سنين عددا، وناتج لايختلف اثنان على أهميته لبناء الأمم ورقيها. أكرموا العلماء، والمبدعين، واغدقوا عليهم، فالإنفاق على هؤلاء إنفاق على النماء والبناء.