شدّ انتباهي برنامج تلفزيوني على الفضائية السودانية، صباح أمس قدمه صديقنا المذيع اللامع الأستاذ ناجي حسن، استضاف فيه الدكتور «علي بلدو» مستشار الطب النفسي وطب الشيخوخة للحديث عن مرض الزهايمر، وأنواع الخرف المرتبطة بالحالة المرضية أو العامة بالشخص المصاب بالخرف. الموضوع شيّق، ويجعلك كمشاهد تعدي مرحلة الشباب تنظر إلى نفسك من خلال معايير محددة للكشف عن (خرفك) أو إمكانية الإصابة به في مقبل الأيام، ولا أحسب أن أحداً سينجو من ذلك إلا من رحم ربي. حاولت أن أطبق المعايير على غيري، وأهمها (الكلام الكتير) فوجدت أن السياسيين وزعماء الأحزاب وقادتها هم الأكثر كلاماً من غيرهم، وكذلك محاولة استرجاع الماضي ونسيان الحاضر، وهذه أيضاً لديهم.. ثم القدرة على أذى النفس والغير إن لم يكن هناك رقيب لصيق بالشخص المصاب، وهذه تكاد تكون واضحة لدى الكثيرين من الساسة في بلادنا وفي كل بلاد الله الواسعة. أما ما استوقفني حقاً في حديث الدكتور علي بلدو، فهو إشارته إلى أن هناك (خرف كاذب) وقد أدهشني التعبير، وزادت دهشتي مع التفسير الذي شرح ذلك الوصف، إذ قال الدكتور المختص، إن الخرف الكاذب، هو حالة نسيان متعمدة لحدث ارتبط بذكرى مؤلمة أو حزينة، مثلما أنكرت إحدى السيدات أنها متزوجة أو جربت الإنجاب بعد أن مرّت بتجربة مؤلمة تمثلت في وفاة ابنها الوحيد، أو (مسح) شخصية ما من الذاكرة لتصادمها مع صاحب تلك الذاكرة ذات يوم حول موضوع له ذكراه الصعبة.. أو الأليمة. عدت لإجراء المعايرة والقياس بذات المنطق على كثير من قياداتنا السياسية التاريخية، فوجدتُ أنهم يتعمدون نسيان فترات مهمة من تاريخهم السياسي، بينما يتذكرها الناس، وعدتُ بذاكرتي لأحداث عشناها قبل سنوات ليست بالبعيدة، كان الحصول فيها على رغيف الخبز أشبه بمعجزة إن لم تسهر طول الليل من أجل الفوز به، مثلما كان انتظار الماء من المواسير أمراً عادياً وروتينياً يتنافس عليه المتنافسون من أجل ملء «جردل» أو «برميل» بلاستيك من المياه العزيزة.. أما الكهرباء فقد كانت حلماً مضيئاً في عقولنا لكنه لا يتحقق.. وغير ذلك كثير. الساسة الذين كانوا يمسكون بمفاصل الحكم في تلك السنوات، خاصة الممتدة من أوائل الثمانينيات إلى أواخرها يدخلون في حالة (خرف كاذب) ولا يذكرون تلك الفترة، لكنهم يتغنون بالحرية والديمقراطية التي طارت مثل عصافير الجنة من بين أيديهم. والساسة الحاليون المعاصرون، ينسون ما فعلوه بالناس، وما قاموا به من (حملات تأديبية) ضد خصومهم، ولا يذكرون إلا ما حققوه من نجاحات وإنجازات في مجالات الطرق والسدود والثورة التعليمية الكبرى وتوفر خدمات المياه والكهرباء والخطط الإسكانية، ويتعمدون نسيان «فصل الجنوب» و«أزمة دارفور» التي ما أن يصل الناس إلى ما اعتقدوا أنه بداية حل، حتى يكتشفوا أنهم ما زالوا في بداية الطريق.. خرف.. ومع ذلك نحاول أن ننسى- كمشاهدين - بعض ما يعذبنا به التلفزيون، ونتذكر أجمل المشاهدات، لذلك التحية لناجي حسن ولضيفه الدكتور علي بلدو.. ونسأل الله أن يقينا من الزهايمر والخرف، وأن ييسّر لنا ما ينشط لنا الذاكرة في حفظ واستدعاء الناس والأحداث.. والأمكنة.. آمين ..