بمراجعة تاريخ المستشفيات بالعاصمة نقول إن عدد تلك المستشفيات الكبرى كان محدوداً- فقد كان هناك مستشفى الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، ثم أضف مستشفى الشعب بجانب عدد من المستشفيات المتخصصة كالمستشفى العسكري، والشرطة، وساهرون، والدايات، والعيون، والذي يعتبر من أقدمها، حيث كان يسمى مستشفى النهر، وتبع ذلك لاحقاً قيام المستشفيات الأخرى، كالذرة- والأطفال- والأذن والحنجرة- وقد استمر الوضع كذلك إلى عهود قريبة، حينما بدأت المستوصفات والمستشفيات الخاصة في الانتشار، مجاراة للتطور وازدياد السكان، وقد أصبح مجال الاستثمار في العلاج يجد التشجيع، حيث أُنشئت مستشفيات على مستوى عالمي، وأذكر أن مستوصف دار الشفاء لصاحبه الدكتور عبد الحميد صالح كان رائدها وأشهرها في بدايات عمل المستوصفات. ولأن الحديث عن تطور الطب والعلاج في السودان حديث طويل ومتخصص، فإننا نريد أن نتناول في هذه المساحة شيئاً عن مستشفى الخرطوم التعليمي، وكلمة- التعليمي- الملحقة باسمه لا تعني أن الأطباء يتعلمون في المرضى، لكنه مرتبط بكليات الطب، وتقديم العون لها في مجال الوقوف على الحالات والاستفادة من التشخيص، وزيادة المعلومات العلاجية، خاصة للدفع على أبواب التخرج في كليات الطب، وقد ظل مستشفى الخرطوم هو المستشفى الرئيسي على مستوى الوطن في العهد الانجليزي، وقد كان يطلق عليه المستشفى الملكي- بل أن الجزء الغربي منه والذي شيدت مبانيه بالحجر كان يسمى المستشفى الانجليزي، وقد شهد المستشفى في تلك العهود انضباطاً معروفاً، وكانت إدارة المستشفى تتعامل بحزم شديد في مواعيد الدخول والخروج للعاملين والزوار، ويقودنا ذلك إلى عنوان هذا المقال، فقد كان النظام السائد آنذاك أن ينوب الباشممرض، وهو دائماً ما يكون رئيس عنبر ينوب عن مدير المستشفى في غيابه- وقد كانت التعليمات واضحة بأن يظل المستشفى خالياً من الزوار إلا في الوقت المحدد للزيارة، وقد تصادف أن كان الباشممرس المرحوم عبد الرحيم محمد صالح قائماً مقام المدير، ويعمل نطبشياً، وعند مروره للتأكد من خلو المستشفى من أي زائر وجد أمرأتين جلوساً في إحدى البرندات، فاستغرب لذلك واتجه لهما مستفسراً عن سبب وجودهما، وكيفية دخولهما في ذلك الوقت غير مواعيد الزيارة، فاشارت له إحداهن بأنها زوجة الفريق عبود رأس ال دولة «سكينة» والمرافقة معها عمتها جاءتا لزيارة قريب لهما، ولكن ما كان من الباشممرض عبد الرحيم إلا أن يطلب منهما المغادرة العاجلة حفاظاً على قوانين المستشفى ولوائحه، لكن السيدتين تماطلتا في ذلك، فاحتد معهما الباشممرض، وطلب إخراجهما، لكن الأمر لم ينته عند ذلك الحد، بل تم استجواب الباشممرض وكان دفاعه أنه ينفذ لوائح المستشفى التي لا تستثنى أحداً. وقد كان مصيره الإبعاد من مستشفى الخرطوم، حيث اتجه إلى مسقط رأسه بقرية البار يريفي مروي، فعمل مساعداً طبياً هناك، يقدم خبرته لوطنه الصغير، وقد عمت شهرته الآفاق، فكان يقصده الأهالي من جهات متعددة للعلاج، واشتهر باسم «عبد الرحيم الحكيم» وهناك ظل محافظاً على انضباطه في مواعيده وفي لبسه بالرداء الشورت الأبيض والقميص الأبيض الجميل، والذي تزينه ميدالية حمراء على صدره، وقد اكتسبها في مجال عمله الممتاز. إن هذه القصة التي جرت تأكد لنا عظمة ذلك الجيل من العاملين وإخلاصهم للمهنة، والتزامهم بالنظم والقوانين، والتزام الدكاترة والسسترات والممرضين بالزي الأبيض الجميل، الذي يبعث في نفوس المرضى الأمل والطمأنينة، ويوضح الحدث أيضاً أن لا كبير على القانون، كما يشير الحديث إلى أن زوجات الرؤساء في ذلك الوقت يتجهن إلى زيارة المرضى بطريقتهن الخاصة، دون ضجيج أو مرافقين، حتى فات على الباشممرض معرفتها بأنها زوجة الرئيس. إنها حالات تداخلت فيها الظروف، فانتهت بإبعاد الباشممرض المرحوم عبد الرحيم، رغم أنه كان على حق، ولكني أقول إن زوجة الرئيس بحضورها في غير وقت الزيارة قد استعملت أيضاً جزءاً من حقها. إنني آمل أن تعود المستشفيات إلى ذلك الانضباط، ولننتظر فربما تؤدي تبعيتها للولاية إلى شيء من التغيير، لكن نأمل أن يكون إلى الأفضل. اللهم أرحم وأغفر لأطراف هذا الحديث الذين انتقلوا جميعاً إلى الدار الآخرة وأجعل البركة في ذرياتهم.