علاقتي بمدينة بورتسودان علاقة قديمة تتجدد حيناً بعد حين، وذكرياتي فيها أثيرة ومحببة لدي.. ونجوت فيها من موت محقق بعد أن غرقت في البحر، وأنقذني وقتها شاب صغير اسمه أحمد، وكان وقتها موظفاً صغيراً جديداً في مكتب السياحة ببورتسودان مع مدير المكتب الأخ الأستاذ خالد كبيدة، وقد بحثت عنهما قبل أيام في بورتسودان.. ولم أعثر عليهما.. وكان الحادث والمشهد في عام 1977 ومعي المغفور له بإذن الله الأخ هاشم الريح، شقيق الإعلامي المعروف الأستاذ علي الريح، وكان هاشم وقتها فني تسجيلات صوتية في الإذاعة، وسافرنا معاً إلى مناطق عديدة داخل السودان، وآخر جولاتنا معاً سفرنا من الخرطوم إلى البحر الأحمر لنسجل حلقات من برنامج عنوانه« سياحة عبر الأثير» وكنت أعده وأقدمه وأنا وقتها مذيع بالإذاعة السودانية.. حللنا ضيوفاً على الأخ خالد كبيدة الذي أحسن استقبالنا، وأكرم وفادتنا وأعد لنا برنامجاً حافلاً للتعرف على اجواء السياحة في بورتسودان.. زرنا معه قرية عروس، والتقينا هناك السيد خليل شقيق السيدة بثينة زوجة الرئيس الراحل جعفر نميري- رحمه الله- ومعه رئيس هيئة السياحة المصرية في ذلك الحين.. وسافرنا إلى سواكن، حيث أعددت حلقة جميلة، وأجريت لقاءات مع عدد من أشهر معمريها، وقد تمت إعادة الحلقة أكثر من مرة.. وكانت حلقة بورتسودان هي الأخيرة للبرنامج.. وكان خالد كبيدة وقتها رئيساً للاتحاد السوداني للغطس، وكان هناك عدد غير قليل من هواة الغطس من الأوروبيين، خاصة الطليان، يأتون إلى البحر الأحمر للاستمتاع بالغطس في مياه البحر الأحمر النظيفة.. وحادث الغرق وقع في اليوم الأخير من رحلاتنا، وقد نزلت بطريقة خاطئة على مركب مطاطي على متنه سائح فرنسي، كان- حسب البرنامج- أن نجري معه حواراً على متن مركبه، انقلب المركب المطاطي الصغير، ووجدت نفسي اهوي وارتفع من القاع إلى السطح، وأنا لا أعرف فن العوم ولا أجيد السباحة، وحين أيقنت أنني لا محالة هالك رددت الشهادة، وكدت استسلم، ثم فجأة وجدت نفسي أصرخ باللغة الانجليزية (help mehelp me))).. وفجأة وجدت من يحملني من تحت الماء و يسحبني إلى خارج البحر، وسط صيحات الحضور وضحكاتهم..! وجدت نفسي حياً أرزق مبتلاً بالماء محاطاً بخلق كثير من الناس.. ضحك خالد مني وقال.. كيف تغرق ونحن معك..! المهم كي أثبت بعض الشجاعة وأنني لا أهاب الموت، ركبت مرة ثانية القارب المطاطي وانطلقت مع الفرنسي نحو مركبه، وأجريت معه حواراً وأنا مبتل الثياب..! بالأمس عدت إلى المكان ذاته، وأنا اتذكر تلك الأيام ثم عرجت على حي العظمة والساحة الشعبية، حيث كنت أقيم مع خالي العميد د. الطاهر محي الدين النجيب، وكان وقتها ضابطاً هناك.. ولكن بورتسودان ليست بورتسودان التي زرتها منذ 40 عاماً، وتوالت الزيارات حتى 2007، فلقد وجدتها تغيرت كثيراً نحو الأفضل.. في زيارتي الأولى عام 1968 وكنت طالباً في المرحلة المتوسطة أعجبت ببورتسودان إعجاباً عظيماً، وكانت مدينة نظيفة جميلة رائعة، ثم تدهورت في الثمانينات والتسعينيات تدهوراً مريعاً.. وأخيراً لبست المدينة ثوب العافية، وجرت فيها مياه الشباب والحيوية، وأكسير الحياة، فعادت سيرتها الأولى جميلة رائعة وينتظرها مستقبل مشرق.. وقد وجدنا أن رؤية الدكتور محمد طاهر ايلا والي البحر الأحمر قد أصبحت واضحة المعالم، وأن الرجل ببعد نظره ورؤيته الثاقبة وخططه الاستراتيجية، التي لم يتوان في تنفيذها، قد حقق نجاحاً عظيماً، وأن المدينة والولاية ككل قد بدأت تتضح معالم نهضتها الكلية للعقدين القادمين.. ستشهد المدينة خلال السنوات القليلة المقبلة طفرة عمرانية هائلة، تتمثل في العديد من الأبراج التي ستوفر مئات الشقق السكنية الراقية، والعديد من المراكز التجارية الضخمة، والحدائق الترفيهية، ونجد استغلالاً ممتازاً للبحر ولشواطئه الممتدة، على مساحات واسعة، والاستفادة من الجزر البحرية، في العديد من الأنشطة السياحية، حيث ستشهد السياحة نشوء استثمارات ضخمة، وتجعل من السياحة مورداً مهماً للدخل في البحر الأحمر.. ولن يقتصر النشاط والاستثمار في السياحة على بورتسودان فقط، بل أن الآمال معقودة أن تعود أركويت إلى سابق عهدها كمصيف لعموم السودان، وقد اطلعنا الأخ الأستاذ عبدالله كنه على العديد من المشروعات السياحية المهمة في اركويت، وخاصة زيادة الطاقة الايوائية بزيادة عدد الفنادق والهوتيلات، وتحسين البنية التحتية، والاستفادة من التجارب العالمية الشبيهة في هذا المجال.. وتجد سواكن اهتماماً خاصة من الوالي وحكومته، ومن وزير السياحة، وهناك عمل كبير ينتظم الآن سواكن في مجال ترميم الآثار التركية والمصرية وغيرهما، وهناك برنامج طموح في مجال الآثار التي تمهد لفتح باب السياحة في سواكن على مصراعيه.. وفي إطار التعاون السوداني المصري هناك ثلاث قرى سياحية يجرى العمل في انشائها، لتكون إضافة مهمة للسياحة في البحر الأحمر، وسألنا الوالي عن البحر الأحمر، وكنوزه ومتى تتم الاستفادة من تلك الكنوز الهائلة، قال: إن العمل يجري على قدم وساق لتحقيق ذلك الحلم الذي لم يُعد بعيداً، بل أصبح أكثر قرباً، وأشار إلى التعاون المستمر بين السودان والجارة الشقيقة المملكة العربية السعودية.. وإلى اتجاه رجال الأعمال السعوديين والخليجيين للاستثمار في السودان، خاصة ولاية البحر الأحمر.. وأن كل الأعمال التي تقوم بها الولاية تهدف إلى الوثبة والانطلاقة الكبري التي تجعل من ولاية البحر الأحمر قبلة للمستثمرين والسواح من شتى بقاع العالم.. انتهى برنامج زيارتنا الحافل والسريع بجولة حرة في أرجاء المدينة، وبصحبتنا السائق الشاب محمد سعيد، والمصور الفوتوغرافي البارع ابراهيم اسحاق، مصور الوالي، وهو من أبناء الجنينة، ولكنه يجسد في البحر الأحمر والشرق تلك الروح السودانية الجميلة، التي تجمع أبناء السودان بكل المحبة والمحنة في البلد الواحد، حيث تصنع بورتسودان تلك الروح السودانية الصادقة المحبة، وبجلسة حلوة عند «السقالة» حيث لا تتم زيارة بورتسودان إلا بزيارة السقالة، وتفقُد مطاعمها التي توفر لك السمك وخيرات البحر ومن بعد الجبنة والشاي، والتأمل في البحر على امتداده اللانهائي..وبدعوة كريمة من الأخ صلاح سر الختم نائب الوالي ووزير المالية وبحضور الأخ الأستاذ محمد طاهر، جلسنا وقتاً ممتعاً عند السقالة، وقد تداعت ذكريات بورتسودان الجميلة التي تستعد منذ الآن لمهرجانها السياحي السادس في خواتيم العام الحالي 2012م، وهناك وعد أن يكون القادم أحلى، وأنت تكون بورتسودان..غير.. واتينينا..!