نصف العنوان أعلاه مأخوذ من مقال مهم للدكتور عبد الوهاب الأفندي الأستاذ السوداني بالجامعات البريطانية والكاتب المعروف استوقفني لدى نشره ب «الأحداث» يوم الأربعاء الماضي، ونصفه الآخر من مقالنا مطلع الأسبوع المنصرم عن الجدل الذي أنتظم مصر «ما بعد 25 يناير» إثر تراكم تراجعات «الإخوان المسلمين» عن وعودهم التي قطعوها علي الملأ لشعب مصر بأن لا يستغلوا شعبيتهم، المتراكمة عبر الزمن والخدمات التي أدوها للشعب من مواردهم الوفيرة، للانفراد بالحكم عقب الثورة التي أطاحت بحكم مبارك وأن يتحركوا وفق مبدأ «المشاركة لا المغالبة» الذي رفعوه شعاراً لسلوكهم السياسي في المرحلة الانتقالية. ü د. الأفندي تناول حالة الإخوان المصريين بمنهج الخبير العارف، بحكم انتمائه السابق لحركة الإسلام السياسي، ولامس بجملة من الأسئلة الاستنكارية مواطن الخلل في نهج الجماعة، الذي جعلها تقول في كل مرة شيئاً وتفعل نقيضه، وركز بشكل خاص على آخر التناقضات في مواقفها، وهو إعلانها إنها لن ترشح لمنصب الرئاسة، واذا بها تفاجيء الجميع بترشيح المهندس خيرت الشاطر، وكانت قد استنكفت ترشيح أحد أقطابها - الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح - لنفسه مخالفاً لقرارها وفصلته وبعض مؤيديه علناً جزاء ذلك الفعل الذي اعتبرته خروجاً على الشورى وقرار التنظيم. ü عزا الأفندي قرار الجماعة بعدم الترشيح للرئاسة وكذلك عدم رغبتها في الحصول على أغلبية في مجلس الشعب - الذي لم تلتزم به أيضاً - إلى أن الجماعة «كانت تشعر قبل غيرها بأن تصديها لقيادة مصر في هذه المرحلة لن يكون في مصلحة مصر ولا الحركة» حتى لا تتعرض مصر لما تعرضت له غزة من حصار، بسبب التحفظات الدولية على تولي الإسلاميين حكم مصر. وفنَّد الأفندي خطل هذا الاعتقاد وقارن بين حالة «حماس» وغزة وحال الجماعة في مصر. فغزة تقع تحت الاحتلال وحماس حركة مقاومة، وانتهى إلى أنه ليس هناك أي مبرر للاستنتاج بأن وصول الإسلاميين إلى السلطة في مصر سيولد وضعاً شبيهاً بغزة. وهذا قاده لطرح تساؤلات جوهرية حول التردد الذي شاب قرارات الإخوان تجاه قضية الحكم في مصر. ü من تلك الأسئلة والتساؤلات: إذا كان لدى الإخوان اعتقاد بأن وصولهم إلى السلطة سيكون وبالاً على مصر، وهو أمرٌ لابد أن تكون له علاقات بالسياسات التي تنوي الجماعة اتباعها، أليس من الأفضل أن تراجع سياساتها هذه بحيث ينتفي الضرر؟ ولماذا ستكون هناك حاجة أصلاً إلى أن يحكم مصر «الإخوان» إذا كان غيرهم أصلح وأقدر على تحمل المسؤولية وأداء الواجب الآن؟ وأهم من ذلك، لماذا يقبل أي شخص بأن يلعب دور «المحُلل» بالنسبة للإخوان بحيث يتولى المسؤولية الانتقالية تحت وصايتهم ورقابتهم ثم يتخلى عنها في الوقت المطلوب.. ü وانطلاقاً من تساؤلات الأفندي و«توصياته» التي لن تجد لها صدى في أوساط الجماعة، فهي قد نظمت نفسها وعملها على هذا الشكل الذي نراه، وفق قناعات مسبقة وتاريخ طويل بالتعامل على هذا النحو، وقبل هذا وذاك فإن حركة الإخوان المسلمين - والجماعة الأم في مصر على وجه الخصوص تعاني من أزمة فكرية قديمة ومتطاولة يمكن اختصارها، كما أزعم، فيما يلي: ü إن حركة الإخوان المسلمين المصرية هي حركة شحيحة الكسب على مستوى الاجتهاد الفكري والاضافة المعرفية والثقافية، وظلت دوماً تعيش على «المنقول» وليس «المعقول» - من النقل والعقل - فقد برز غيرها - للمفارقة - آخرون انتموا إليها في مرحلة من المراحل، لكنهم شقوا طريقهم الخاص بالتوفر على البحث والتفكر ومحاولة التجديد. فالحركة لا تحمل مشروعاً تحديثياً للفكر الإسلامي ولا برنامجاً سياسياً تغييرياً يتصل بحياة شعبها وشعوب المنطقة والعالم الإسلامي. إذا ما استثنينا، للدقة، مشروع البنوك الإسلامية الذي تبناه الأمير السعودي محمد الفيصل وبعض المنتمين إليها وإلى السلفيين من الفقهاء - فجماعة الإخوان والحركة الإسلامية العالمية المتصلة بها هي في جوهرها «حركة رفض للواقع»، وهو واقع بائس بالفعل، لكن مشروعها الأساس لتغيير هذا الواقع قائم على فكر محافظ وتقليدي يبشر ب «العودة للجذور» وما كان عليه المجتمع الإسلامي لأول عهده في القرن السابع الميلادي - أو الأول الهجري - وتلك هي المشكلة التي تكمن وراء الأزمة الفكرية التي يعانيها «الإخوان»، مشكلة تتمثل في إسقاط نحو 13 قرنا من الحساب، وفي محاولة إعادة عقارب الزمن إلى الوراء إلى «ضحى الإسلام» متجاوزة تجارب المسلمين والعرب خلال تلك العصور الطويلة التي أعقبت «الخلافة الراشدة» التي سقطت إثر «الفتنة الكبرى» وتحول الأمر بعدها إلى ملك عضود، وباسم الإسلام أيضاً. وكما أشار الأفندي فإن «الجماعة» المصرية على وجه الخصوص، لم تستطع مواكبة التطورات حتى من منظور الأجتهاد الذي قدمته حركات إسلامية أخرى. كما أننا لا نجد بين قادتها مفكرين إسلاميين في جرأة مالك بن نبي أو حسن الترابي أو راشد الغنوشي على سبيل المثال. ü أما ظاهرة التردد في اتخاذ القرارات، التي تمليها الرغبة «البراجماتية» في المشاركة بالشأن العام والنزعة «المحافظة» للابقاء على الجماعة ونظامها في كل الظروف، والتي توقف عندها د. الأفندي، فهي ظاهرة قديمة ومتأصلة لدى الحركة. ففي كتابه التوثيقي المهم «الأخوان المسلمين: بين التاريخ والمستقبل» الصادر عن «مركز الأهرام للنشر» عام 2010، يروي لنا الدكتور وحيد عبد المجيد عن حالة نشابه ما جرى أخيراً وتتصل أيضاً بخوض انتخابات مجلس النواب عام 1942 - أي قبل 10 سنوات من قيام ثورة يوليو - ويقول د. عبد المجيد أنه رغم أن المرشد العام الأول «حسن البنا» كان يسعى لأن تصدر القرارات بالاجماع، فلم يكن بمقدوره دائماً أن يحقق ذلك، وبالتالي كان يضطر لإصدار بعض القرارات ضد موقف الأغلبية. ومن أمثلة ذلك قراره بالتراجع عن خوض انتخابات مجلس النواب في ذلك الوقت. فقد طلب منه رئيس الوفد والحكومة مصطفى النحاس التنازل وأغراه برفع القيود التي فرضتها عليها حكومة حسين سري السابقة وإعادة فتح مقرات الشُعب التي أغلقت، فرأى البنا إن المكاسب الأكيدة التي يمكن أن يحققها من التراجع عن ترشيح نفسه و16 من أعضاء الجماعة في انتخابات مجلس النواب تفوق أي مكسب آخر أو محتمل يمكن أن يترتب على الإصرار على خوض الانتخابات، ولكنه لم يستطع إقناع مكتب الارشاد الذي رفض التنازل، ومع ذلك اتخذ هو القرار وقام بتنفيذه تحت شعار «الحرص على استمرار الجماعة» ووصف أحد قيادة الجماعة ذلك القرار بأنه جاء «صدمة» لمشاعر الإخوان. هذا مجرد مثال للمشكلة الهيكلية التي يعاني منها التنظيم وحالة التردد في اتخاذ القرارات التي شهدناها أيضاً تتكرر في مصر ما بعد 25 يناير. ü ويلخص د. وحيد عبد المجيد في كتابه، وهو يناقش برنامجاً سياسياً للإخوان كانوا قد طرحوه على بعض النخب الثقافية والسياسية المصرية للتحاور حوله عام 2010، يلخص أزمة الإخوان الفكرية بقوله: إنها مشكلة العجز عن بلورة صيغة تُوفًّق ولا تُلفِّق، بين سيادة الأمة التي تقوم عليها الدولة الوطنية في هذا العصر، وسيادة الشريعة بالمعني الموروث الذي أصابه الجمود لفترة طويلة بسبب غياب الاجتهاد. وبسبب هذا العجز، تبدو الجماعة مُرتبكة بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة، بين الحكم للشعب والحاكمية لله، فتقدم خطوة إلى الأمام وتعود بأخرى إلى الوراء لأسباب أهمها أنها لم تعط اهتماماً يذكر للاجتهاد الذي تتطلبه معالجة مشكلة كبرى على هذا النحو. ü كنت أتمني لو أن دكتور الأفندي كرس بعض وقته لمناقشة وفحص أسباب الأزمة الفكرية التي تعانيها الجماعة منذ ميلادها ونشأتها الأولى، والتي ما الأزمة التنظيمية التي ركز على مظاهرها الأفندي في مقاله المخدوم إلا عَرَضاً للمرض ولجوهر تلك الأزمة الفكرية التي أشار إليها د. وحيد عبد المجيد .