أخذت معالم المخطط الاستراتيجي، بأبعاده العالمية والإقليمية والمحلية، تبرز بجلاء من عدوان الحركة الشعبية على منطقة هجليج، وهو تخطيط أوسع بكثير من حجم هذه الحركة التي أوكل اليها تنفيذه حتى تحكم السودان بأسره، سواء بالأصالة أو بالوكالة، وقد كسبت ديبلوماسيتنا أراضي واسعة في أوساط المجتمع الدولي، الذي دعا حكومة جنوب السودان للانسحاب الفوري غير المشروط من منطقة هجليج، على أساس أنها منطقة تابعة للسودان، وليست من المناطق المتنازع عليها، حسب لجنة ترسيم الحدود وفق إعلان الاستقلال في الأول من يناير 1956م، وحسب حتى محكمة لاهاي للتحكيم الدولي، كما أن شمال السودان ظل يستغل نفط هجليج كجزء من حصته طوال الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام دون أدنى احتجاج من جنوب السودان، واستمر هذا الوضع لما بعد الانفصال حتى العدوان الأخير عليها. والمخطط يستهدف اسقاط النظام في السودان لإقامة نظام جديد حسب مشروع (السودان الجديد)، تسيطر عليه الحركة الشعبية بالأصالة، بعد إعادة توحيد الشمال والجنوب وفق أجندتها العنصرية، أو بالوكالة عن طريق الجبهة الثورية المزعومة بزحفها المتصور من الأطراف على المركز، في تزامن مع تحريك الشارع للانتفاضة الشعبية المتوهمة، وعن طريق أحزاب صغيرة لا قاعدة لها، والتي سيكون دورها في السلطة الجديدة هامشياً، إزاء سيطرة الحركة الشعبية قطاع الشمال على الحكم، لا قضى الله تعالى ولا قدر، أما الذي حدث من آثار ذلك العدوان فهو مزيد من التفاف الشعب حول نظامه، وهو يدافع عن الأرض السودانية، ومزيد من تماسك الجبهة الداخلية لمجابهة العدوان، فالأحزاب المعارضة تدين العدوان، والمجتمع المدني يعبئ نفسه لمساندة المجهود الدفاعي، والإعلام يقوم بواجبه الوطني في كشف أبعاد المخطط وتحليل أهداف العدوان. أما الأصابع الإسرائيلية وراء العدوان فليست بخافية، فرئيس حكومة الجنوب في زيارته الأخيرة لاسرائيل، قد صرح للاسرائيليين بأنه لولا دعمهم لما تحقق الانفصال، وهذا إعلان صريح بأن دولة الجنوب ستدفع فواتير ذلك الدعم لخدمة المصالح الإسرائيلية في المنطقة، وعلى رأسها زعزعة استقرار السودان لاسقاط نظامه وتغييره بنظام موالٍ لاسرائيل، التي تعتبر السودان كجزء مكمل لأمنها، من حيث موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر ووادي النيل والقرن الأفريقي، علاوة على ثرواته الطبيعية الظاهرة والكامنة. حتى المنهج الاسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين نقلته الحركة الشعبية في تعاملها مع السودانيين، ولكن بكفاءة أقل ببعيد ومن غير غطاء تولي كامل، وهذا يدل على أن مخطط الحركة الشعبية العدواني يجري باستشارات اسرائيلية (وأمريكية)، ولكنها تجهل الواقع السوداني، مما يدعو السودان إلى أخذ الحذر، وهو يتعامل أمنياً وديبلوماسياً مع قوى أكبر في المنطقة ينازلهما على ساحته الصغيرة، فكأن انتصاره على هذه القوي سيكون محسوباً لصالح شعب السودان وقواته النظامية.. والمنهج الإسرائيلي هو احتلال الأرض بغير مشروعية، ثم المماطلة في الإنسحاب منها، إعتماداً على عنصر الزمن، والدخول في مفاوضات السلام بعد فرض الأمر الواقع على الأرض، ثم التعنت في هذه المفاوضات بنية مبيتة للمباغتة العدائية، وهكذا دواليك، وهي تتخذ لعدائياتها غطاءً من حلفائها في المنظمة الدولية، أليس ذلك هو نهج الحركة الشعبية تجاه السودان، فهي تتعنت في مفاوضات المسائل العالقة سواء قبل الانفصال أو بعده، وهي تباغت الجانب السوداني باحتلال الأرض السودانية، تارة بالمحاولة الفاشلة بأبيي التي أحبطتها القوات المسلحة السودانية، وتارة بالعدوان على هجليج، فهبت القوات المسلحة السودانية لتحريرها، والحركة تقصد فرض الأمر الواقع من طرف واحد، أو المساومة بهجليج السودانية مع أبيي السودانية- كما أعلنت عن ذلك- وكما تفعل اسرائيل بمبادلة أراضي المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية بأراضٍ فلسطينية محتلة، أو هكذا مقترحاتها في المفاوضات.. أما الغطاء الأمريكي للحركة الشعبية في مجلس الأمن، فجاء على لسان سوزان رايس مندوبة الولاياتالمتحدة بمجلس الأمن ورئيس دورته الراهنة، وهي تطلب من دولة الجنوب الانسحاب من هجليج، وتردف ذلك بمطالبة حكومة السودان بالامتناع عن قصف مناطق بالجنوب، فكأنها تساوي بين احتلال محقق، اعترفت به دولة الجنوب إبان غزوها لهجليج، وبين قصف مختلق ينفيه السودان بشدة ويستحيل التحقق منه.ثم تطلب دولة الجنوب، بلا حياء، نشر قوات دولية بهجليج، وهي ليست أرضاً متنازعاً عليها، وحتى المتنازع عليها فالسبيل لحلها هو المفاوضات بوساطة أفريقية، فكأن الحركة تستدعي التدخل الأممي في المنطقة الحدودية بكاملها، في تهرب للأمام من الوساطة الأفريقية التي لم تنجز مهامها الأساسية بعد، وقد قررت في الترتيبات الأمنية نشر قوات أفريقية لحفظ السلام في المناطق المتنازع عليها، وليست في المناطق التابعة للسودان على مسافة 10 كيلو متر بالتساوي من حدود البلدين، ولكن الحركة الشعبية نكصت عن هذا الاتفاق الأمني فاعتدت على أرض سودانية. ثم أنظر إلى الحركة الشعبية الحاكمة في دولة الجنوب، وهي تهدف إلى تضييق الخناق الاقتصادي على السودان، تارة بوقف ضخ نفطها عبر السودان حتى تحرمه من رسوم العبور، وتحتل هجليج النفطية، وتعلن أنها تستهدف أي منطقة نفطية تابعة للسودان قريباً من حدودها، وهو صلف لا يشبهه إلا الصلف الاسرائيلي، ولكن القدر يخبئ فتحاً جديداً من الثروات للسودان!!؟ والأمر أوسع من مشروع (السودان الجديد) وإنما هو يمتد إلى مشروع التحالف الفيدرالي الذي يضم السودان (بعد استتباعه للحركة الشعبية) ثم دولة الجنوب، ودول أخرى جارة للجنوب كيوغندا، الذي نُصب زعيمها (عرافاً) للمصالح الاسرائيلية في المنطقة. ولكن السودان ثار، في الربيع الأفريقي، حكومة وشعباً، وأحبط التآمر من جذوره. والله المستعان