ود العوض يستنطق ملوك مروي «البجراوية» لغة جعلية قحة!! لأول مرة أصدق من يقول إننا شعب واحد!! هذا المفتاح مدفون في حبكة درامية للأستاذ عمر العوض، عنوانها «مفتاح الحياة» من (252) مشهداً تدور قصتها حول ملك شاب فقد عرشه بسبب موقفه من المقدسات الدينية، من آلهة وكيان وعادات في مملكة مروي، قبل الفين وأربعمائة عام، والمكان هو البجراوية الحالية أقصى غرب البطانة. تثقف هذا الملك في أرقى المدارس الإغريقية، وقد كانت قبلة الحضارة آنذاك، هذه المعاهد التعليمية خلفها سقراط وأفلاطون وأرسطو. بعقلية المثقف حاول هذا الأمير أن يعالج الخرافة في الديانة المروية.. المعالجة كانت من زاويتين: 1- شكك في تعدد الآلهة 2- عطل عادات تقديم قربان بشري للنيل ورغم أن الخاتمة شابها الغموض، إلا إننا نستطيع القول إن بطل الرواية «الملك استابكا» فقد عرشه وروحه من أجل الحقيقة.. تماماً كأساتذة سقراط. يبدو بوضوح أن القراءات الكثيفة للتاريخ أخذت نقلة نوعية في وعي الأستاذ الكبير عمر العوض، مؤلف الرواية «جعلي ابن الدامر» حتى استطاع أن يفتح مساراً بين الحاضر والماضي.. وجد وشيجة تاريخية في صميم تراث أهله الجعليين...انطلق من جمال حبيبة مشلخة «درب طير» وطار بها في التاريخ باحثاً عن جذور العلاقة بين الإنسان في أواسط السودان «والتاريخ»المدفون في البجراوية!. كان السؤال دائماً: هل «البجراوية» مجرد اسم صادف مكان حفريات تاريخية، أم هو بالفعل امتداد للتاريخ القديم؟ من هو الأقرب لهذا «التاريخ» المدفون أو المعابد الباقية في النقعة والمصورات: هل هم النوبيون الذين يحلو «للعرب» أن يسموهم بالرَّطانة، أم الذين بقوا في ذلك المكان بثقافة عربية أفريقية هجينة!!. هذه الأسئلة وما شاكلها يمكن أن يدخل فيها الهوى الشخصي، والتعصب القبلي، وآفات النسابة والتراث الشفاهي، وبالفعل أرادت السياسة، أن تفعل شيئاً حينما دخل «الإنقاذيون» في عراك مع النوبيين بسبب السدود، ولكن لا يبدو أنهم استطاعوا أن يفعلوا شيئاً. الأهم هنا كيف عالجت المسرحية هذه الأسئلة.. مستعيناً بثقافته المحلية وقراءاته التاريخية استطاع المؤلف أن يلقي في وعي القارئ السوداني نوعاً من هوية ملموسة، نستطيع أن نسميها «السودانية» أو السودانوية كما يحلو للبعض. إزالة الحرج: لم يكتف بمعالجة الأسئلة المخففة، بل تصدى للأسئلة الحرجة، وأنقذنا أيما إنقاذ من لعنة التاريخ، وخاصة بني قومه، مثل تلك الاتهامات التي سجلها الشاعر الكبير تاج السر الحسن للإنسان السوداني، في إدانة داوية، بأنه لا يحترم «التاريخ»: ياأهرامات البجراوية هل مازلت مكاناً لقضاء الحاجات؟ قال ذلك وهو يرثي ثقافة الإنسان المعاصر في مدينة الخرطوم: تغفوا الدنيا فيها من عهد «بعانخي» ولا تصحو حتى يأتي المطلع لا تستيقظ حتى تتصدع فيها، تلك الجدران المتكئات على الجذع هذه الغفلة الحضارية الهائلة، والجهل المقيم في الشعب السوداني، أضاعت عليه الكثير من الكنوز المدفونة، مثل الحضارة المروية القديمة التي لم تأخذ حقها من الكشف والفحص: الحرف المروي الزاهي يكمن لؤلوة في الصدفات يظل هذا «التاريخ» مدفوناً يحمل في أحشائه قصة مروي القديمة العظيمة «سابكة الفولاذ» برمنجهام أفريقيا، والشعب السوداني محشور في لواري الخرطوم.. الخرطوم: تلك العاصمة الكبرى «الغارقة في الأوحال، جدرانها متساقطة تهاوى إنسانها في: درك اللحظة- بين السغب وبين العطش- والطوفان- الزهرة كانت مونقة- لكن ذبلت وذوى البستان». هكذا ختم أسئلته الموجعة هذه بسؤال حائر: كان الماضي يزخر مجداً كيف تراه يكون الآن؟!. ربما هذا «الحرج» لا يستطيع أن ترفعه إلا الأجيال وحتى ذلك الحين، من المؤكد أن هذه المسرحية أثبتت أن اهرامات البجراوية لم تعد مكاناً لقضاء «الحاجات» بل أصبحت مكاناً لاستلهام الأدب والثقافة والتاريخ. لم تترك هذه المسرحية مجالاً للأسئلة، أو قل استطاعت أن تضعف من غلواء القلق والارتباك!! رسم هذه القبلية الحادة في السودان المعاصر الألوان بطريقة فيها الكثير من الأناقة، يرى الشعب السوداني كأنه عجينة سلالات ثقافتها واحدة ممتدة لأعماق بعيدة في باطن الأرض!! هذه الخلاصة هي أغلى مطلب لدى الباحثين الوطنيين، أو قل الحكام والسياسيين المعاصرين لاثبات وحدة الشعب!. لم يكن هناك من سبيل كحل ناجع سوي البدء بالثقافة.. لا تعالج الجروح بطريقة مقنعة إلا من هذا الباب، وليس عن طريق التصريحات المرتجلة مثل : تلك التي يطلقها رئيس الدولة. أنهم يريدون أن يبنوا «مروي جديدة» منقطعة في دروب التاريخ.. فقط لأنهم يريدون أن يسحبوا بساط «التاريخ» من نوبة الشمال أو لأنهم يريدون أن يسجلوا إنجازاً لعهدهم مروي «السد» لا يمكن أن يكون بمستوى «مروي القديمة»: الانجاز في سد مروي بضاعة شعوب أخرى (خبرة صينية وتمويل خليجي) لا دور للإنسان السوداني فيه سوى الاستمتاع بالديون التي رهنوا لها الأجيال القادمة.. الحضارة القديمة لم تكن بهذا الشكل. تقول المسرحية إنهم أودعوا خصوصياتهم حتى في الآلهة المستوردة.. آلهة السودان كان «آمون نبته» وليس «آمون طيبة» في مصر.. ايزيس و أوزريس في جنوبأسوان، لم تكن كما كانت في الدلتا.. وأخيراً الإله أبادماك وهو إله سوداني صرف!!. هناك محاولات محتومة في أدبيات(«الإنقاذ») تشكك في علاقة النوبيين بالحضارات القديمة!! ويبدو أن المؤلف نفسه في «نفسه» شيء من هذا الشك.. لم يشر إلى علاقة النوبيين بهذه الحضارة إلا مرة واحدة حينما ذكر على لسان العرافة.. أن غرفة نوم إله النيل مبنى من «الحجر النوبي».. قالت العرافة هذا وهي «باسمه» وكما هو معهود في مشاهد المسرحية أن البسمة علامة على الشك وعدم القناعة. ولكن الفرق كبير بالطبع بين شكوك المؤلف ومقاصد الساسة، الشك في سياق هذه الرؤية المتقدمة التي تطرحها المسرحية في مصلحة الجميع، لأن الهدف هو الهوية السودانية الجامعة!.