حق لجيشنا المنتصر أن يفرح بما فعله في هجليج، وحق لشعبنا أن يحتفي بعودة هجليج بعد عشرة أيام من الاختطاف والارتهان للجيش الشعبي وعناصر «العدل والمساواة» المسلحة. فالجيش السوداني وبكفاءة عالية أحسن التخطيط والتدبير وتقدم- كعهده- عبر خطوط النار بخطة محكمة وشجاعة فائقة وتمكن من فك أسر هجليج وانتزاعها من بين أيدي المختطفين الذين حوّلوها إلى «رهينة»، تماماً كما يحدث في عمليات الخطف والجريمة المنظمة، حين يقوم أحدهم بخطف طفل برئ، يضع السكين حدّ عنقه ويطالب بالفدية أو «الذبح الحرام»، ويظل يساوم ويحدد المواقيت النهائية، يجددها بين كل ساعة وأخرى حتى تغافله قوات الأمن وفق خطة مرسومة بإحكام فتقضي عليه وتخلص الطفل المختطف الذي مسته جراء العمل بعض الجروح الجسدية والقروح النفسية، لتفرح الأسرة بعودته وتتجه من بعد إلى المستشفى لتضميد جراحه ومن ثم عرضه على الطبيب النفساني لإعادة التأهيل، لتقيم بعدها الاحتفال بعودته. لكن الأمر عادة لا ينتهي بالاحتفال وتقبل التهاني، بل تعمد قوات الأمن و«المباحث الجنائية» إلى استدعاء الأسرة للتحقق من ملابسات الحادث وظروف الاختطاف.. أين كان الطفل وأين كانت الأسرة لحظة وقوع الجريمة، لتحدد بدقة إذا كان هناك تفريط في الرعاية والحماية ومدى مسؤولية الأسرة في ما حدث، وهذا انطبق بشكل أو آخر على حالة «اختطاف هجليج»- طفلنا الذي جرحه العدا، على حد قول الشاعر- وهذا ما انتبه له بعض نواب المجلس الوطني، ومنهم بعض نواب حزب المؤتمر الوطني الحاكم خلال تلك الجلسة التي انعقدت لبحث أزمة احتلال هجليج قبل التحرير، التي لم يحضرها وزير الدفاع ولا أي من أركان حربه في القوات المسلحة. فقد طالب أولئك النواب بضرورة محاسبة وزير الدفاع بسبب تعرض هجليج للاحتلال، برغم ما تعرضت له من هجوم من جانب الجيش الشعبي في أوقات سابقة، فرفض طلبهم أو أرجئ بذريعة الظروف. هجليج هوجمت في أواخر مارس الماضي من قبل الجيش الشعبي وحركة العدل والمساواة وتم احتلالها ليومين، وأعلن رئيس حكومة الجنوب سلفاكير- شخصياً- ذلك الاحتلال قائلاً إن هجليج «أرض جنوبية» تمّت استعادتها، وكان ذلك أثناء اجتماع ما يسمى بمجلس التحرير، لكن ذلك الاحتلال لم يكن إلا «بروفة» لما هو قادم كما يبدو، إذ عاد الجيش الشعبي لمهاجمتها مرة أخرى في أوائل أبريل، قبل أن يعود في مرة ثالثة بآلاف الجنود ليحتلها ويسيطر عليها في العاشر من ذات الشهر على مدى عشرة أيام، وهي مدة قصيرة بحساب الجهد الذي بذلته حكومة الجنوب من أجل السيطرة على هجليج واستعادتها جنوباً بحسب دعواهم. فقد كنا وكان الجميع على يقين أن هذا الاحتلال الغاشم لن يدوم، لثقة في هذا الجيش الذي لم يسجل تاريخه الطويل أو مضابطه أية هزيمة تذكر، وصدقت التوقعات وعادت هجليج، ولكن بعد أن لحقها التخريب والتدمير الآثم والمتعمد، بعد أن «جرّحها العدا». الأمانة والمسؤولية تدعونا جميعاً للجلوس إلى منضدة «المباحث الجنائية»، كأهل الطفل المخطوف، فهجليج ليست مجرد قرية فقيرة على حدودنا الطويلة.. هجليج موقع إستراتيجي وأكبر مُزود بالطاقة لبلادنا. ويصبح السؤال الأول على تلك المنضدة- منضدة المساءلة والمحاسبة التي لا كبير عليها- هو لماذا تركت هجليج أصلاً بلا غطاء أمني يردع مجرد التفكير في الاقتراب منها من جانب أي معتدٍ، من الجنوب أو الشمال أو من أي جهة أتى. فمنابع البترول وحقولها في كل الدنيا توضع لها خطط التأمين بالتزامن مع عمليات الحفر والإنشاء، ولا تترك هكذا للظروف أو تحرس بشركات أمنية شرطية كما يحدث لمقار الشركات والبنوك في المدن الكبيرة. والأمثلة على ذلك كثيرة، فهل تستطيع أية قوة عسكرية مثلاً الاقتراب من أي حقل نفطي في السعودية أو الخليج دون أن تتصدى لها قوة أكبر تردعها على بعد أميال من تلك الحقول، سواء كانت من القوات المحلية لتلك الدول أو من قوة أمريكية أو أوربية من تلك الدول التي تعتبر أمن الطاقة وأمن تلك الحقول على بعدها جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي. فواقعة هجليج كشفت أن أهم موقع لمواردنا النفطية مكشوف أمنياً ويمكن احتلاله وتخريبه كما جرى بالفعل. وأن من قاموا بذلك لابد أنهم وعبر استخباراتهم كانوا يعلمون بذلك «الانكشاف» وتلك الثغرة المفتوحة، ففعلوا ما فعلوا. وإذا ما تجاوزنا حقيقة التفريط القائمة أصلاً في تأمين هجليج، لابد أن ينتقل السؤال على منضدة البحث والمحاسبة إلى: لماذا بعد أن تم احتلال هجليج لوقت قصير في أواخر مارس وانسحبت القوات الغازية منها، لماذا لم تتحسب القيادة لتلافي ذلك التقصير في تأمين هجليج، لماذا لم تدفع بقوات كافية لردع أي تفكير في الاعتداء عليها مرة ثانية أو ثالثة، ألم يكن ذلك أيضاً «تراخياً» يستحق المحاسبة والمساءلة لمن بيدهم أمر تحريك القوات ولم يفعلوا، وانتظروا إلى أن وقعت الواقعة المتمثلة في احتلال هجليج وتخريب منشآتها، ليحركوا قوات لو حركوها في الوقت المناسب وقبل عودة المحتلين لنجت هجليج من الخراب والدمار الذي لحق بها؟! ومع ذلك سيبقى سؤال: هل سيعود المجلس الوطني ونوابه الأفاضل لما طرحوه من قبل عن ضرورة المحاسبة والمساءلة أم أنهم سيكتفون ويستعيضون عن ذلك بمشروع «قانون محاسبة الجنوب»؟! وهل ستتخذ قيادة الدولة ممثلة في رئاسة الجمهورية القرارات الضرورية والحاسمة إزاء هذا التقصير أم تكتفي بعودة هجليج وفرحة النصر وتغفر وتتسامح مع من فرطوا وتسببوا في انكشاف هجليج وما ترتب عليه من نقص في الأنفس والثمرات؟! هجليج واحتلالها وخرابها، كانت مدخلاً للبعض للولوغ- كعادتهم- في تخريب الوحدة الوطنية، عبر النعيق والمزايدة ب«الوطنية» على السودانيين المعارضين أو الناس العاديين المستبعدين أصلاً عن موقع القرار. أولئك الذين لا يشركون ولا يستشارون ولا يعلمون أصلاً بما يجري في أروقة صناعة القرار في البلاد، والذين يشتمون ببساطة وبجرأة يحسد عليها القائمون بها ب«الخونة والمخذلين». فأولئك المستبعدون- وهم أغلبية الشعب- ليسو شركاء أصلاً في السلطة أو الثروة، حتى يسميهم من سماهم ب«الخونة والمخذلين»، فالخيانة لفظاً تصدر عادة عمّن أُؤتمن على مال أو شيء أو سلطة وخان الأمانة أو تجسس لصالح الأعداء، والتخذيل أيضاً يصدر عن أولئك الذين يملكون أدواته ويفعلونها في اللحظة المناسبة لشق الصفوف أو بث الرعب في صفوف المقاتلين، وليس فقط بالتعبير في «مجالس الأنس» عن الشكوك في أداء السلطة أو التعبير عن الغضب في الانفراد بها من قبل الحاكمين. الخونة والمخذلون الحقيقيون هم المفسدون والفاسدون، الذين صرفتهم رغباتهم وأطماعهم الذاتية عن الاهتمام بواجباتهم الوطنية وأمضوا وقتهم في تأمين ذواتهم وتشييد عماراتهم، بدلاً من تأمين الوطن وإعماره وإصلاح حاله، فعاشوا وتقلبوا في النعم ويشكون التخمة وسط شعب يتضوَّر جوعاً ويفتقر إلى الكساء والدواء والإيواء، ظناً منهم أن الشعب لا يعلم، وهو ظن لو تعلمون أثيم. ابحثوا عن الخونة والمخذلين المندسين في صفوف السلطة والذين عششت في نفوسهم وبيوتهم غربان الفساد واتخذوا من رفع العقيرة واتهام الآخرين وسيلة للدفاع، بمبدأ الهجوم خير وسائل الدفاع.. الدفاع عن النفس وليس الوطن!!