عندما وصلت إلى مطار الخرطوم عند أبواب الصالة وجدت الزميلين رحاب الدين طه رئيس تحرير الوفاق والأخ أحمد عمر خوجلي رفيقي في المحن أيام العمل في التيار.. بداية مشكلة تنبىء بسوء تخطيط لرحلة هجليج.. روح المصادمة الصحفية تلبستني.. مضيت إلى موظف الاستقبال.. الرجل كان مشغولاً بمكالمة هاتفية..أنهى مكالمته ثم سألني عن وفد الوزيرة سناء المتجه إلى هجليج..اعتذر بلطف عن التأخير وسوء التفاهم يبدو أن المكالمة الهاتفية كان محورها وفدنا المغادر إلى هجليج.. دلفنا إلى المطار وتركنا زميلنا رحاب الدين بالخارج يحكم التنسيق بين أفواج الصحافيين. في الصالة الجنوبية تناثر الصحافيون ..لا أحد من الكبار.. كل رؤساء التحرير كانوا من الغائبين.. مراسل رويتر الكسندر... ومراسل الفرنسية ايان.. من بين الوفد لمحت شخصيات لا علاقة لها بالوسط الصحفي.. بعد أن أعملت حاستي الصحفية عرفت أنهم مستشارون قانونيون من قبل وزارة النفط وشركة النيل للبترول.. ماضون إلى هجليج بغرض تقييم الخسائر والبحث عن إمكانية أن تتحمل شركات التأمين جزءاً من أعباء الخسائر.. مهمة لا تبدو أنها ستكلل بالنجاح.. الصحافيون في نقاشهم دخلت وزيرة الدولة بالإعلام سناء حمد العوض.. صافحت الجميع ثم مضت بعد استراحة قصيرة إلى الطائرة. الطائرة.. فوكرز 50 تتبع لشركة مارسلاند للطيران.. تحسست قلبي كالعادة كلما أسافر على طائرات بلادي..الداخل إليها مفقود مفقود..اكتشفت أنني لست الوحيد الذي يخاف من طائرات بلادي ..بعضهم بعد أن ربط الحزام بدأ يتحدث عن ذكريات أليمة بين طيات السحاب..سألت المضيفة عن زمن الرحلة لم تمنحني إجابة قاطعة وانصرفت لحال سبيلها تضع على وجهها ابتسامة لا محل لها من الإعراب. نحن الآن في هجليج.. هبطت الطائرة بسلام..الاستقبال كان دون المتوقع.. ضباط من رتب وسيطة ومهندسون من الحقل.. فتور الاستقبال كان يقول إن الجميع في شغل شاغل.. حسين عمر قدم نفسه باعتباره موظفاً في شؤون العاملين بالحقل.. يرتدي بزة عسكرية ويتصرف بصلاحيات جنرال.. حسين رافق وفدنا في كل أنحاء هجليج. الجولة الأولى كانت تفقدية.. كان علينا أن نطوف على ماخلفه العدو من حرائق.. حجم الدمار كان اقل من توقعاتي.. ظننت أن الجيش الشعبي قد أحرق المدينة بأكملها..المهندس المقيم شرح لنا شفرة الدمار.. الدمار المحدود..تم حرق مخزن قطع الغيار بالكامل النار استمرت في الاستعار فوق ثلاث ليال.. محطة المعالجة المركزية للنفط تم إتلافها بالكامل.. محطة الوقود توقفت عن العمل بفعل التخريب.. مولد احتياطي لم ينتبه له العدو مازال يعمل.. تعتمد عليه المدينة في تسيير أمورها.. الخط الناقل للبترول أصابه تلف كبير..الأنبوب 28 بوصة يسبل من على جوانبه زيت كثيف..المهندس.... يبشرنا بأنهم سيتمكنون من إصلاح العطب في خمسة أيام وبعدها يعود النفط للتدفق..المعالجة تعتمد على تركيب بلف جديد كلفته مئتان وخمسون ألف دولار..الحابس الجديد يمكنهم من معالجة العطب..المهندس يؤكد أن هذا الجهد تم بأيد سودانية وأنهم شكروا الدول العربية مثل قطر والسعودية الذين أبدو استعداداً لمد يد العون.. صهاريج النفط الضخمة لم يستطع الجيش الغازي تدميرها.. صهريجان ضخمان سعتهما ثلاثمائة ألف برميل مازالا يعملان رغم بعض الثقوب التى تركها الأعداء..المهندس يكشف أن الفشل سببه أن الصهاريج مغطاة بعوازل مقاومة للحريق والصدمات الشديدة. نحن الآن في طريقنا إلى عريشة المجاهدين.. نقاش كثيف يدور حول السماح للمراسلين الأجانب بالوصول إلى قيادة الدفاع الشعبي..الجنرال المدني حسن عمر أبدى تحفظاً على الخطوة..الوزيرة سناء بحسها الإعلامي منحت الخواجات إذن دخول إلى حصن المجاهدين..أصدرت الوزيرة تعليمات بالاهتمام بالخواجات.. « الكسندر جاديس» البولندي مراسل رويتر جاءت به إلى عربتها الخاصة..بصورة دبلوماسية نبهت الحضور أن الكسندر يتحدث العربية..البولندي الكس قضى بضع سنوات في قاهرة المعز..لا يحتاج إلى ترجمان في عمله..رفيقه ايان مراسل الفرنسية قادم جديد للبلاد..محطته السابقة كانت فيتنام..جاء من بلاد تاريخها يحفل بالحروب إلى بلاد مستقبلها ينذر بكثير من النزاعات..ايان صحب إلى السودان زوجته التي تشاركه التلذذ بمهنة البحث عن المصاعب. هنا عريشة المجاهدين القيادة العامة للدفاع الشعبي..بيوت من القش تجاورها مظلة كبيرة من قوائم حديدية وعرش بلدي..وجوه ساحات الفداء القديمة ومشوار الجهاد الطويل.. وزير الدولة بالكهرباء الصادق محمد علي بلحية مغبرة وأعين مجهدة وحماس لا يفتر..المهندس الصادق أمير المجاهدين في هذه الناحية.. محمد أحمد حاج ماجد ..احد أحفاد «الحاج موساب» بناحية مورا..جذوره ختمية وتربطه صلة قرابة بنائب رئيس الوزراء السابق سيدأحمد الحسين..البعض يخلط بين حاج ماجد سوار السفير وحاج ماجد المجاهد..ابن وزير الإرشاد يقف بين المجاهدين.. محمد خليل عبدالله يسد ثغرة في الخطوط الأمامية.. المجاهدون أحاطوا بالوزيرة سناء حمد العوض البيلي..الوزيرة التي زاملت معظم هؤلاء في ساحات العمل العام بدأت تنشد معهم أهازيج الدفاع الشعبي ..وصل الحماس درجة أن تمتشق كلاشنكوف.. الحماس جعل كثيراً من زملاء المهنة يتنازلون عن الحياد الإعلامي ويتحولون إلى مجاهدين إلى بعض الوقت.. أصوات غاضبة تسأل عن المهندس الطيب مصطفي وزميله إسحق فضل الله ولماذا تأخرا في الوصول إلى خط النار.. حاج ماجد سوار يختلي بابن عمه الظافر وبلغة يكسوها الجد يحذره من تخذيل الروح المعنوية ويؤكد بصوت غاضب إن هؤلاء اعتدوا علينا وسنرد الاعتداء..الظافر صمت في عرين المجاهدين..حاج ماجد يطلب كاكي للظافر على سبيل المزاح ويقول لن نطلق سراحه وسنعيده إلى أيامه الأولى مجاهداً. نحن الآن في طريقنا إلى الرجل الذي حرر هجليج.. اللواء كمال عبدالمعروف.. شقيق الشهيد ياسر عبدالمعروف وسليل أسرة عرفت بالعطاء.. عدنا إلى سيارة الوزيرة.. الخواجة الكس فلت من المراقبة وغادر سيارة الوزيرة.. يريد أن يرى بعين الصحفي.. زميله الآخر ايان أيضاً غادر المقاعد الأمامية وبات في الصندوق الخلفي للسيارة البوكس.. فجأة توقفت السيارة الأخرى..ايان والكس وجدا بغيتهم في جثة على الطريق.. نزلا مع غيرهم وقاما بتصويرها.. هنا بدا القلق ينساب بيننا الجنرال المدني حسين عمر يقول إنه سيقوم بمسح الصورة من ذاكرة كاميرات الأجانب.. سناء حمد ترده وتغير من مجرى الرحلة بسبب حادثة التصوير.. تلزمنا على التوجه إلى الهلال الأحمر السوداني.. تريد أن تمسح الصورة ولكن بطريقتها الخاصة. هنا في الهلال الأحمر توقفنا.. فريق كامل جاء من كادقلي يحوي موظفين في الهلال الأحمر ومتطوعين.. رئيس الفريق قدم خطبة عصماء عربي وإنجليزي وأكد أنهم وصلوا من البارحة ووضعوا خطتهم المهنية التي لا تفرق بين عدو وصليح في ستر الموتى.. الوزيرة سناء تحدثت عن جهود حكومتها منذ اللحظة الاولى لتحرير هجليج.. سناء أكدت أن الحكومة السودانية اتصلت بالصليب الأحمر بالخرطوم وطلبت تجهيز قسيس للصلاة على القتلى المسيحيين قبل مواراة جثثهم.. سناء أوضحت أن هذا جانب إنساني لا علاقة له بالخصومات السياسية..المسؤول الهلالي طاف بالوفد بين معدات دفن الموتي.. ذوي القلوب الرحيمة لم يتحملوا المناظر واندفعوا خارجين.. مروة عباس واحدة من المتطوعات تحدثت عن تجربة طويلة في تتبع سوءات الحروب. عدنا إلى قافلتنا.. نحن الآن متجهون للقائد اللواء كمال عبدالمعروف.. اللواء عبدالمعروف فضل قيادة هذا المتحرك رغم أنه كان من المفترض أن يقود الفرقة 14أراد عبدالمعروف أن يسجل اسمه في التاريخ وبالفعل نجح في مهمته الصعبة.. وصلنا إلى موقع القائد لم نجد أحداً.. حراس المبني أفادوا أن القائد انتقل هذا الصباح إلى الحامية وفضل أن يكون مقره وسط جنده.. عدنا أدراجنا إلى الحامية.. هنا نقابل كبار الجنرالات عمداء وعقداء ..أخيراً يخرج علينا رجل مهاب القامة صارم القسمات معتز بعسكريته.. تكلم بنفس يحمل الإيمان العميق.. بعدها أعقبته الوزيرة بالكلام وليتها لم تفعل.. من الأفضل في هذه الأحوال أن يكون المتحدث الأخير رجل حقق نصراً كبيراً. خارج القيادة العامة للجيش وقف شاب.. الوزيرة سناء طلبت من أحد الواقفين أن يلفت انتباهه.. محمد نافع علي نافع جاء ليحي الوزيرة.. الوزيرة ضحكت وقالت لنافع الصغيراعمل حسابك من نافع وهيثم بابكر..المهندس هيثم بابكر لم يكن إلا زوج الوزيرة الذي قطع دراسته في لندن وجاء عائداً لمقر عمله بوزارة النفط ليدير مع إخوته معركة الصمود.. نافع الصغير رد على الوزيرة أنا أبوي بقدر عليه انتي اقدري على هيثم بابكر.. انتهت المسامرة بين الوزيرة ونجل مساعد رئيس الجمهورية وعدنا إلى طائرتنا. وجوه الصحافيين ملأها غبار يوم في هجليج.. مازحت البولندي الكس الذي أصبح وجهه يلعن قفاه بسبب الأتربة تحتاج لأن تغطس في نهر النيل هذه المرة..ابتسم الكس الذي كان سعيداً بمهمة يوم في هجليج.. ترى ماذا سيكتب الخواجة الهادىء عن هذه المأمورية.