أعلنت الخارجية السودانية في بيان ممهور بتوقيع السيد الوزير علي كرتي «رفضها التام» لمساعي إحالة الملف العالق بين شمال السودان وجنوبه إلى مجلس الأمن الدولي، واعتبرت الأمر بمثابة محاولة لطمس دور الاتحاد الأفريقي، ومن شأنها أن تؤدي إلى «تغليب الاعتبارات السياسية والمواقف المسبقة ذات الغرض» على مقتضيات التسوية السلمية العادلة. الوزارة جدَّدت ثقتها في الاتحاد الأفريقي وأجهزته وعلى رأسها مجلس السلم والأمن الأفريقي بشأن الخلافات بين السودان ودولة جنوب السودان، وحذرت من أن أي عمل لاجهاض هذا الدور أو القفز عليه يرفضه السودان. وقالت إن السودان يُتابع باهتمام بالغ مشروع القرار الأمريكي الذي يجري تداوله في مجلس الأمن الدولي بشأن الأوضاع بين السودان وجنوب السودان، وأشارت إلى الجهود المضنية التي يبذلها السودان لتأكيد الدور الأساسي للاتحاد الأ فريقي في صيانة السلم والأمن الإقليمي منذ العام 2006 وحتى الوصول إلى تسوية سلمية للنزاع في دارفور، لافتةً النظر إلى ما ورد في ميثاق الأممالمتحدة وفي القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي حول المنظمات والترتيبات الإقليمية، وأعلنت تمسكها بدور الآلية رفيعة المستوى برئاسة ثابو مبيكي في إيجاد حلول للخلاف بين البلدين، وعلى رأسها القضايا الأمنية. بيان الخارجية تزامن مع ما أعلنه حزب المؤتمر الوطني من تلويح واشنطن بنشر قوات دولية تحت الفصل السابع على الحدود بين السودان وجنوب السودان، وقطع بأنه «لم يعد ينتظر جزرة من أمريكا ولا يخشى عصاها» وقال رئيس القطاع التنظيمي بالحزب: إن واشنطن بخطواتها هذه أدانت البلدين وخلصت للفصل السابع، وكان عليها أن تكمل عملها خطوة خطوة وتؤكد إدانتها التي لم تستطع فعلها وبعدها تأتي للفصل السابع. بيان الخارجية السودانية يطرح أكثر من تساؤل، وفي مقدمتها الحكمة من رفض التعامل مع مجلس الأمن في واحدة من أشد القضايا إلحاحاً، وهي قضية العلاقة الشائكة بين شطري الوطن المنقسم، أو التعامل مع الأممالمتحدة ومجلس الأمن فيها «بالمزاج»، نتوجه إليه حين نشاء ونصْرف النظر عنه وقتما نشاء، وفي هذا يمكننا أن نتذكر عدداً من المواقف التي لجأ فيها السودان إلى مجلس الأمن بملء إرادته. المفاوضون السودانيون في نيفاشا، استدعوا مجلس الأمن والأممالمتحدة وأشهدوهم على الاتفاقية وأودعوا نصوصها لدى مجلس الأمن كأهم شاهد دولي على تلك الاتفاقية، وبهذا أدخلوا الأممالمتحدة ومجلس الأمن فيما يعنيهم لتتخذ الاتفاقية بعداً دولياً بإرادة المتفاوضين، هذا غير دعوة أعضاء مجلس الأمن الدائمين ليكونوا شهوداً على تلك الاتفاقية التي رعتها ومولتها أمريكا. السودان لجأ إلى مجلس الأمن أكثر من مرة واشتكى من اعتداءات حكومة الجنوب والجيش الشعبي على أراضيه- بحيرة الأبيض وهجليج نموذجاً- ونذكر في هذا أن مجلس الأمن طلب من حكومة الجنوب على وجه الخصوص الانسحاب من هجليج، وكذلك فعل الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الذي قال له سلفاكير ب«فجاجة ووقاحة» لا يحسد عليها: أنت ليس رئيسي ولا أتلقى أوامري منك! السودان عضو كامل الأهلية في الأممالمتحدة ولديه مبعوث دائم وبعثة دائمة في الأممالمتحدة، ومجلس الأمن بوصفه أعلى هيئة في المجتمع الدولي، لا يستأذن في العادة أعضاء ذلك المجتمع أو المنظمات الإقليمية عندما يرى أن هناك ما يهدد الأمن والسلم الدوليين، وإذا كان الأمر لا يرقى لتهديد الأمن والسلم الدوليين، فهو يتشاور وينسق في العادة مع الدول المعنية أو المنظمات الإقليمية ويستعين بها في تنفيذ قراراته في ما دون «الفصل السابع». من خلال التخوفات التي أبداها بيان الخارجية وعززتها تصريحات المؤتمر الوطني، نستطيع أن نتفهم تلك التخوفات ودواعيها من إقدام واشنطن- المنحازة بالضرورة- لدولة الجنوب لتدبير مكيدة ضد الخرطوم، ولكن هذا لا يكفي أن نقول إننا لا نثق إلا في الاتحاد الأفريقي ومجلس أمنه وسلمه والآلية رفيعة المستوى بقيادة ثابو مبيكي، خصوصاً وقد أثبتت التجربة العملية، قبل وبعد الانفصال، أن الاتحاد الأفريقي لم يتمكن ولم يكن بمقدوره فرض شيء أو موقف على أطراف الخلاف التي تتفاوض تحت مظلته، حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من تجفيف شرايين النفط والعدوان الغادر على هجليج، أو ترك ترسيم الحدود للأقدار، وذلك كله ليس لأن الاتحاد الأفريقي لا يرغب ولكن لأنه غير قادر! إذا كان رأينا أن واشنطن وحكومتها تتآمر مع الجنوب وجوبا ضد الخرطوم، فلماذا نقبل توالي مبعوثيها الخاصين للسودان منذ دان فورث مروراً بثاني وثالث حتى انتهينا بليمان، ألم يكن الأجدر بنا أن نتخذ مواقف أكثر وضوحاً وصرامة في التعامل مع واشنطن التي تتآمر على بلادنا بصيغة «الجزرة والعصا» مباشرة، بدلاً من توجيه نقدنا لمجلس الأمن والأممالمتحدة وتحذيره من عدم التدخل في شؤوننا وتركها للاتحاد الأفريقي؟! كيف سنتمكن، إذا ما سرنا على هذا المنوال، من استرداد حقوقنا الناتجة عن تدمير هجليج وتخريب منشآته.. هل سنرفع ملف التعويضات الذي يجري إعداده وحصر الخسائر المترتبة على العدوان فيه إلى الاتحاد الأفريقي وثابو مبيكي ليتدبر أمر التعويضات مع سلفاكير وحكومته، أم نحن مضطرون للجوء لمجلس الأمن لانتزاع تلك الحقوق؟! هل ستقتصر معركتنا الدبلوماسية على أروقة الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والعلاقات الثنائية، أم الدبلوماسية النشطة والفعالة والذكية تتحرك في كل المحافل وتواجه كل المؤامرات والاستهدافات بقدر عالٍ من الحنكة والحكمة وتجهضها، ولا تستثني في ذلك المحافل الدولية. رفض تدويل العلاقات الشمالية- الجنوبية المدولة أصلاً ورسمياً منذ إيداع اتفاقية نيفاشا مضابط الأممالمتحدة، لن يحل لنا قضية ولن يسترد لنا حقاً، والاتحاد الأفريقي أعجز من أن ينجدنا، وظروف بلادنا لا تحتمل سنوات أخرى من «اللَّت والعجن» في إطار الاتحاد الأفريقي، وعلينا أن نهتبل الفرصة ونستفيد من الأخطاء الغبية التي ارتكبها حكام الجنوب، خصوصاً بعد أن رأينا دولاً صديقة للجنوب كبريطانيا تدين تلك الأفعال والسياسات العشوائية لحكومة الجنوب وتهدد برفع يدها من المشاركة في إعادة الإعمار. صحيح أن أمريكا ذات نفوذ مهم في مجلس الأمن في الأممالمتحدة، ولكن ليس لدرجة أن كل شيء في جيبها وتحرك الآخرين «كأرجوزات» من خلف ستار!