أجلس في الطريق من دلهي إلى بلدة أورا حيث التاج محل، على يمين السائق لأول مرة، فالقيادة في الهند على يمين الطريق، كما تركها الإنجليز، والسكة حديد كما هي، إلا من تحديث، وتطوير، والخدمة المدنية كما هي، وقد تطورت دون أن تتأثر قواعدها المتينة، فليس كل ما يترك المستعمرون شراً مستطيراً.. أخذت الهند بالصالح وتركت الطالح .زخات المطر المنهمر على طول الطريق البعيد ترسم خطوطاً كرستالية على زجاج نوافذ السيارة، فتنداح خيوط الماء عكساً وطرداً، وأول ما صور للماء خيوطاً الشاعر السوداني العظيم الراحل مصطفى سند اذ يقول: لو زندها إحتمل الندى لكسوت زندها ما يشاء ثوباً من العشب الطري وإبرتين من العبير وخيط ماء...هذا خيال يلامس الذرى وشعر عجيب، أحدق عبر رزاز المطر في مساحات زراعية شاسعة، من الأرز والخردل، ويعج الطريق بالضواحي السكنية، والمركبات والسابلة. ففي الهند لا توجد مساحة فارغة.. إما زراعة أو سكان، والتحديق عبر رذاذ المطر يبعث الذكرى وتصطخب في الدواخل بعد سكون .. الطفولة.. الصبا.. حنتوب.. جامعة الخرطوم.. الحياة بخطها المستقيم وخطها المتعرج...الزواج والعيال الذين يمموا أركان العالم.. بريطانيا.. الهند.. الخليج.. والعش الذي يعود سيرته الأولى فارغاً بعد أن تطير العصافير.. والآمال التي يخيب جلها ويصدق منها القليل.. مثلها مثل الطيور التي تسبح في الفضاء، كما وصفها الشاعر الغنائي الرومانسي مصطفى بطران: والبلد وما أدراك ما البلد.. إلى أين تمضي بنا .. شريط من الذكريات، يقطعه بين الحين والحين السائق الهندي، وقد سألته أول الرحلة لماذا يدفع أهل الزوجة في بلادهم مهر الزواج عكس ما يفعل أهل الدنيا بأسرها؟ فطفق يتحدث ويصمت ويتحدث مرة أخرى.. أنت مسلم قلت له وهذا لا يتفق مع شرع الاسلام، والتاج محل أحد عجائب الدنيا المعمارية الذي خلد به الملك شاه جيهان زوجته الراحلة، ممتاز كصرح يضم قبرها يقف إعجازاً بشرياً فريداً في فن البناء، وعلمت من الذي رافقني في أرجائه، أن المرمر والحجارة الملونة جلبت من جبال جنوب أفريقيا واستراليا، وأن الملك شرع في بناء صرح آخر بالحجر الأسود، يشاهد جزء منه في الضفة الأخرى للنهر، إلا أن ولده أعتقله في القلعة التي تجاور تاج محل بتهمة تبديد المال، فقضى ما تبقى من عمره ينظر عبر نافذة القلعة للتاج محل حتى توفى.وجدت دلهي هذه المرة في غيوم، وأمطار، وطقس بديع، والمدينة يسكنها (16) مليون نسمة، تكتظ شوارعها بالمركبات من كل نوع، بما فيها من يركب الأفيال ويقف عند الإشارة الحمراء وتقف الحركة لأبقار تقطع الشارع في تؤدة حتى تصل بسلام الى الجانب الآخر، ومما يدهش أن الأبقار في الهند لا مالك لها، ترعى عشب الطرقات، وتتوالد وتتكاثر، والعشب وافر داخل دلهي، فيبدو أن المدينة شيدت داخل غابة، أزيحت بعض أشجارها لتقوم الأحياء، ثم أصدر قانون يحرم قطع الشجر، وتتكاثر في دلهي السناجب، والأرانب، والقرود والطيور من كل نوع، بما فيها الطواويس، ولكل حي في دلهي سور وبوابات وحراس. ويمكن أن نطلق على دلهي مدينة الأثرياء جداً والفقراء جداً، ففيها من يملك المليارات، وفيها من يعيش على رعي كلاب الأسر الموسرة. لم أحظى بوجود السفير الصديق الأديب الخضر هارون، ولكنني أدين للأخوة الأعزاء اللورد عبد المنعم شقلة، ونائب السفير عمر، والعميد نصر الدين، وصهري محيي الدين وياسر، بدفء الاستقبال والمشاعر السودانية الأصيلة، وهكذا أبناء السودان أينما ذهبوا، وعلى ذكر الدبلوماسيين والسفراء نذكر بالخير صديقنا الرياضي الأديب السفير عبد المحمود عبد الحليم، الذي أمضى أطول فترة كسفير لبلادنا في الهند، فهو الذي حبب لنا البلد البعيد العظيم، فتعددت له زياراتنا كلما سمحت لنا ظروف الحياة في مدها وجذرها، فالثقافات على تنوعها وتعدد مشاربها تلتئم في ذلك البلد الجميل المقتدر الذي يشق الآن طريقاً نحو الذرى.. البلد الذي يقطنه (مليارا) نسمة، يأكلون يومياً مما ينتجون، وينامون بأمان تحت ظلال الديمقراطية، فكم بالله من أطنان الأرز تكفي هؤلاء ليوم واحد؟ والمجلس الهندي للعلاقات الثقافية أنشئ عام (1950) على يد مولانا أبو الكلام أزاد أول وزير للتعليم بعد الاستقلال، أنشئ للإسهام في إعداد وتنفيذ سياسات، وبرامج الهند الثقافية الخارجية، بهدف تقوية العلاقات الثقافية مع دول العالم، من خلال تبادل الفرق والمجموعات الفنية والأدباء، ومن مهامه أيضاً توفير المنح الدراسية للطلاب الأجانب، ويبلغ عدد الطلاب الأجانب الذين وفرت لهم المنح اليوم (3200) طالباً ينتمون إلى (90) دولة.العودة من بلدة أقو والتحديق عبر زخات وخيوط المطر.. هذه البلاد تنبسط مثل أرض بلادنا، وأهلها يزرعون، ويصنعون، وما يذهل أنهم يصدرون ما يفيض من الأرز، بعد أن يكتفوا وهم قرابة (مليارين)، وفيهم شأن البشر في كل مكان الفقراء، ولكن لا يصل الأمر في بلادهم لحدوث المجاعة، والهند تشق اليوم طريقها بخطى حثيثة نحو المجد السامق، فهي تقود ثورة الحاسوب تصنيعاً، وبرمجةً، ووعياً وتقود التصنيع بمختلف أنماطه، وقد أمنت منذ زمان بعيد الطاقة العظمى للإستخدام المدني، مما يدفع قدماً، بالتصنيع والنماء، ورغم تعدد الأديان، والمعتقدات، والأعراق، والسحن والقوميات في تلك الديار، إلا أنهم توحدوا، وتآلفوا، وأيقنوا أن الوحدة صمام الأمان والسلام، وهي دوماً كذلك، فالنزاعات التي تنشأ تكون دوماً بينهم وبين جيرانهم، وليس بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين بعضهم إن حدثت لا تشكل ولا تفضي إلى حروب تدوم، وتقضي على الأخضر واليابس.. فليت أهل بلادنا يدركون ما في الوحدة من سمو، وأمان لنا ولأجيال وأجيال تاتي من بعدنا، ألا يرى الذين يرفضون الوحدة الناس من حولنا يتوحدون جغرافياً، واقتصادياً وعسكرياً.. كم عدد الأجناس والأعراق والأديان التي تشكل اليوم الولاياتالمتحدة.. أليست الوحدة هي التي عبرت بهم إلى مقدمة الدنيا رفاهة، ووفرة، ومنعة وتطوراً... أليست الوحدة هي التي أرخت عليهم ظلال السلام في بلادهم، إن وحدة السودان ونحن نستشرف قريباً الاستفتاء، يجب أن تكون حتمية وواجباً ومسؤولية وطنية لا تدانى. يتبع