من بين الكتب التي حملتها معي من مصر خلال زيارتي الأخيرة، كتاب صغير ونادر صدر ضمن «سلسلة الدراسات الشعبية» عنوانه «في الفولكلور القبطي» لكاتبه الصحافي روبير فارس، فقد استوقفني عنوان الكتاب وموضوعه، لأن الثقافة القبطية والتاريخ القبطي من المناطق المغلقة شديدة الإظلام، اللهم إلا لذوي التخصص في التاريخ القديم وباحثي الحفريات الأثرية. فوجدت من خلال هذا الكتيب الذي يقع في 168 صفحة، وخطه قلم كاتب غير مختص، إضاءة مهمة على العلاقة بين مصر القبطية ومصر الإسلامية العربية، وأثر الأولى على الثانية لغة وسلوكاً وتديناً. وقدم للكتاب الدكتور خيري شلبي رئيس تحرير الهيئة العامة لقصور الثقافة المشرفة على «مكتبة الدراسات الشعبية» المصرية. ويقول خيري شلبي، في تقديمه للكتاب: الفولكلور القبطي هو البذرة الأساس في الفولكلور المصري الناطق بالعامية على وجه الخصوص، ناهيك عن دخول الثقافة الشعبية القبطية في كل أنسجة الفنون الشعبية، من ألعاب الأطفال إلى الرسوم الاحتفالية بالمناسبات الدينية على أبواب البيوت، إلى الوشْم، إلى الموسيقى والغناء، إلى المدائح الدينية والسير والملاحم الشعبية. الثقافة القبطية الشعبية والرسمية هي وريثة الحمولات الثقافية الغنية الأصلية للغة المصرية القديمة، لغة الحضارة المتفوقة صانعة فجر التاريخ على ضفتي وادي النيل الخصيب، وهي أيضاً حاضنة للثقافة العربية الإسلامية الوافدة مع الفتح الإسلامي، لا سيما وأن علاقات تجارية قديمة كانت قائمة بين المصريين والجزيرة العربية عبر البحر الأحمر، مما خلق معابر شعبية كثيرة لتبادل التأثير والتأثر بين الثقافتين المصرية والعربية. أضف إلى ذلك أن الفتح الإسلامي لمصر لم يكن نوعاً من الاحتلال، كالاحتلالات الكثيرة السابقة التي تواترت على مصر، إنما كان هناك نوع من الترحيب بالمسلمين الفاتحين، حيث استقبلهم المصريون بأريحية كبيرة، بل وساعدوهم على مهمة الدخول إلى مصر -نكاية بالغزاة الرومان- ما يعني أن الثقافة العربية الإسلامية الوافدة لقيت من يحتضنها بروح حضارية عريقة ويُضفي عليها الكثير من السماحة والرُقي العاطفي، بل إن الأقباط الذين دخلوا في الإسلام نظراً لأنهم على علاقة حميمة وقديمة بالوحدانية الإلهية، أنتجوا إسلاماً مصرياً متميزاً عن الإسلام في كافة الدول التي دخلت في الإسلام من غير العرب. فقد تميّز الإسلام المصري بالسماحة الروحية والاستنارة في التأويل النصِّي وإقناع في الرؤية ورحابة في أفق التفاسير. وكل ذلك ناتج عن تفاعل الثقافة الوافدة -المحببة لهم- مع الثقافة الكامنة الخصيبة الضاربة في أعماق الإنسانية. ü لما فُرضت اللغة العربية على مصر «كلغة رسمية» للدولة، نجح اللسان القبطي في تخليق «لهجة مصرية» منبثقة عن العربية الفصحى. فاللسان القبطي الذي اتسق مع إيقاع مفردات زراعية رقيقة ومطواعة صافية كسماء مصر، جزلة كطمي نيلها، كان صعباً عليه أن يتواءم مع «لغة الضاد» ذات الحروف المفخمة، وما بين ساكن ومتحرك تتجلى خشونة الصحراء ولفحة حرارتها، كما تنعكس إيقاعات قصف السيوف الباترة. لكن في نفس الوقت كانت هناك علاقة نسب بين اللسان القبطي واللسان القرشي العربي الذي نزل القرآن بلهجته الفخيمة الفصيحة. ü الدكتور سيد كريم في كتابه البديع عن «بناة الكعبة» يشير إلى أن قبيلة قريش أخوالها مصريون - أمهم هاجر زوج إبراهيم وأم إسماعيل الذبيح- وعن المصريين ورثوا ذرابة اللسان ومرونته. وبهذا يمكن أن نفهم كيف لم يجد القبط -المصريون يعني- صعوبة تذكر في تعلم العربية، فقبل أن يتعلموا قواعدها في المدارس، تعلموها في الأسواق والشوارع والدواوين الحكومية خلال دولاب العمل في الحياة اليومية. لقد تعلموها كلغة للحديث والتداول، كل ما في الأمر أن «التشكيلات» التي تقتضي التفخيم بخشونة الأسياد قد انكسرت إيقاعاتها على اللسان القبطي، فانقلبت الهمزة «ياءً» أحياناً وصارت الجيم «قافاً أو بين القاف والكاف»، لكن اللهجة المصرية أخذت في التطور حتى صارت «لغة قائمة بذاتها»، هي نفسها اللغة العربية الفُصحى، لكنها أنجبت بنتاً جميلة بتقاطيع مصرية، إلا أن دم الأم واضح تحت بشرتها القمحية، فصارت العامية المصرية هي العربية الفصحى نفسها ولكن بدون إعراب. ü ويزعم خيري شلبي أن الذي طور العامية المصرية وجعل منها «لغة فنية» تضارع الفصحى وتتفوق عليها في كثير من الأحيان هو «الحمولات الثقافية القبطية» التي أعاد «القبط المسلمون» صياغتها بالعامية المصرية الموروثة من اللغة القبطية الموروثة بدورها من اللغة المصرية القديمة. ويتجلى العطاء في «البكائيات المصرية» أو ما يسميه العامة ب«العدُّودة» إذ تجد فيها لغة غاية في الرقي وإن كانت عامية، رفعها وارتقى بها المحتوى الشعوري العريق الموروث من قديم الأزل، الذي صادف نفساً معاصرة صافية فاستجاب للغتها المبتكرة. ü في كتاب «في الفولكلور القبطي» مدائح وتواشيح وأناشيد وأغنيات شأن ما نراه في التراث الإسلامي المصري، كلها بالعامية المصرية في مدح يسوع «المسيح»، وهي لغة برغم فطرتها البدائية الساذجة تكاد تكون نفسها لغة شعراء من أمثال فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب، مثل هذا الذي نطالعه في مقطوعة أو ترنيمة الغزل القبطي في بيت الله: زي العصفور ما وجد بيتهُ زي اليمامة الفرحانة.. بيتك يا رب أنا حبيته بيتك حبيته بأمانة. ومثلما نقرأ في ترنيمة «البلحة» الحمراء التي اتخذها الأقباط للتعبير عن الشهداء، وكأنها من شعر هؤلاء الشعراء الشعبيين الذين سبقت الإشارة اليهم: البلحة لونها أحمر.. دم سال زمان على أرضنا دية.. كان أعظم هدية للفادي الرحمن.. طعمها حلو مسْكَّرْ.. دي حلاوة الايمان ده اسم ربنا.. أحلى ما عندنا للفادي الرحمن.. داخلها أبيض منوَّر.. لون قلب الإنسان قلوب طاهرة نقية.. مفيهاش الخطية بعيدة عن الشيطان.. ü إنه كتاب يستحق القراءة لأنه يزيل غبش الرؤية وعتمتها ويساهم في دحض مقولات الانقطاع الحضاري والثقافي ويضع حقائق الاستمرار والتواصل في نصابها الصحيح.