نشأت الصحافة عموماً في ظل التحولات الفكرية الكبرى التي شهدتها الحضارة الإنسانية في القرون الماضية، وهي الحقبة التي تميزت بأنفتاح واسع في حرية التعبير وصاحبة ثورة في الأدوات الفنية المتمثلة في أجهزة الطباعة والتصوير ونقل المعلومات مما مكن الصحافة من استيعاب كل فنون الحياة ومشاربها وحمل شتى المعاني الى الجمهور الذي ما ينفك ينمو عوده وتقوى رابطته ويتعاظم نفوذه بسبب المعرفة والتعليم. إن تنظيم الجدل الحر واتاحة اسبابه من خلال صحافة مهنية حرة وما يربيه في الطبائع من تعظيم مبادئ الحوار وقبول الرأي الآخر لهو من أقوى أدوات بناء الوحدة الوطنية.. فالصحافة المهنية هي التي تزرع قيماً سياسية مشتركة تنهي عن العنف والإثارة والفتنة وترعى الأخلاق وتصون الأعراض. إن الصحافة اليوم تعد واحدة من أقوى أدوات التنمية البشرية والاقتصادية بما تؤدية من تنمية العقل العام والبناء الثقافي والفكري وتربية ملكة النقد البناء والتصويب الموضوعي. لقد شهدت الساحة الصحافية السودانية في الآونة الأخيرة زيادة كبيرة في عدد الصحف وتفاوتت فيها مظاهر الإلتزام المهني والفني والأخلاقي بصورة ملفتة أحدثت نوعاً من التباين في النظر لمستقبلها بعيون الخبراء، حيث يعقتد البعض أن شكل ملكية الصحف قد إنعكس سلباً على المضون وأثر على الممارسة المهنية ويعتقد فريق آخر أن الصحافة السودانية قد تحررت لحد كبير عن السلطة مما أفرز داءاً صحفياً خلط بين المواقف الوطنية الموالية والمعارضة، بينما يرى فريق آخر أن العديد من الصحف السودانية تتناول القضايا الاجتماعية والثقافية بشكل لا يتناسب مع القيم السائدة في المجتمع السوداني. لقد شهد الربيع الأخضر من العام الماضي ومطلع العام الحالي تعطل صدور بعض الصحف بسبب خلافات الشركاء والملاك أو الفشل في توفيق الأوضاع الإدارية، وتعطل البعض عن الصدور بتجاوز الخطوط الحمراء عند جدر الأمن القومي والسيادة الوطنية. وتواجه بقية الصحف تحديات ارتفاع تكاليف مدخلات الصناعة الصحفية الأمر الذي يهدد مستقبل الصحافة السودانية إذا لم تتدارك الدولة ذلك بحزمة من الإجراءات لدعم التمييز الايجابي للنشر الصحفي في البلاد، وذلك بتوفير المدخلات وتطوير الآليات الإدارية والإشرافية والتشريعية في ظل الإنفتاح وإتساع قاعدة المشاركة السياسية إنطلاقاً من الثوابت الآتية:- أولاً: إن مساحة الحريات الصحفية الممارسة في بلادنا تعتبر واسعة ورحبة بالمقارنة مع محيطنا الاقليمي والعربي وتمارس أحياناً بغير ضبط أو مسؤولية تراعي المصلحة العامة للبلاد والأمن القومي للوطن مما يتطلب أن ينبه القانون الجديد لهذه المسؤولية مقابل الحرية. ثانياً: الحاجة الضرورية لوجود مجلس ينظم هذه الصناعة الصحفية ويرعى معاييرها المهنية ويسعى لتنمية قدرتها على العطاء بتوفير المعينات اللازمة وبيئة الانتاج المحفزة ورفع القدرات والتدريب للصحفيين لمواكبة التطور المستمر في هذا المجال ثم ضبط المخالفات والتجاوزات احكاماً للعلاقة بين الحقوق والواجبات. ثالثاً: تجنب الإثارة الضارة بمصلحة المجتمع عند التعرض للظواهر السالبة واحترام الآداب والأخلاق العامة وذلك بإقامة الميزان العادل بين الحق على الحصول على المعلومة والحاجة لمراعاة الخصوصية للأفراد والجماعات، بما يعرف بحق الجمهور في المعرفة وحق الافراد في الخصوصية. رابعاً: ضرورة التأصيل الخاص والدرية العالية لمجتمع الصحافة في مجال النشاط الفني والتحريري لمواكبة عصر الثقافة في صناعة الصحافة والمطبوعات والمهارة التحريرية التي تضمن الحد الأدنى من الرسالة المهنية للصحافة وتحصن الصحف من الغرض والتحريف وتمكنه من المزاوجة الذكية بين التشويق في رواية الخبر والمحافظة على المسؤولية وأمانة النقل حتى لا ينزلق كافة الكذب والإثارة الضارة. ü خامساً: حماية الصحف والمؤسسات الصحفية بالقدر الذي يمكنها من أداء دورها وعدم تعطيلها أو مصادرة دورها والتأكيد على حقه الصحفي في الحصول على المعلومات من كافة الجهات ما لم تكن مصنفة بقانون آخر لكونها سرية وحماية مصادر الصحف وحصانته حالة أدائه لمهامه ومنعه عن التنازل عن حياديته ومصداقيته بتلقي اموال أو هدايا أو أي مؤثر آخر خصوصاً من الجهات الأجنبية منعاً لانتقال عدوى المرض والغرض الذي اعترى كثيراً من انشطة مؤسسات الاعلام الدولية الاستعمارية الموجهة لخدمة اهداف تلك الجهات. سادساً: ضرورة الارتقاء بالمؤسسة الصحفية بتقوية شروط ومؤهلات رئيس التحرير وخبرته لضمان تحقيق أعلا معدلات الأداء وممارسة الرقابة الذاتية وضبط النشر مما يقلل من الحاجة للرقابة القبلية أو إضطرار الجهات الحكومية الأخرى من التدخل بأستخدام قوانينها الخاصة وحصر العقوبات لدى المحاكم فقط، وجزاءات المجلس القومي للصحافة والمطبوعات.