أحببت الصحافة نعم.. هويتها وعشقتها، هذا مؤكد، وتمنيت أن أعمل في بلاطها منذ الطفولة والصغر، بحكم البيئة والنشأة، فقد تفتحت عيناي على كبار الصحفيين وآباء المهنة في بيتنا القديم بشارع كرري في أم درمان، مثلما تفتحت عيناي على كبار الفنانين والشعراء والساسة والرموز والمشائخ ورجالات الصوفية، والبرلمانيين، والمعلمين والمعلمات، ونشأت محباً للزعيم إسماعيل الأزهري والاتحاديين بحكم انتماءات الكبار. ظلت الرغبة في العمل الصحفي تكبر داخلي، لكن الأمر لن يكون بمثل سهولة الرغبات والأمنيات، وكان السيد الوالد الأستاذ محمود أبو العزائم- رحمه الله - يقول لنا على الدوام إن الرغبات غير المقرونة بالقدرات والعمل ستصبح مثل حلم صاحب البيضة الذي ينتظرها لتصبح فرخة، فدجاجة ليقوم ببيعها وشراء شاة صغيرة بثمنها، يربيها حتى تنتج الحليب فيصنع منه السمن ويبيعه في الأسواق ويتمكن بعد فترة من تكوين ثروة تمكنه من توسيع عمله ويتزوج وينجب البنين والبنات، يأمر وينهي. ويظل طوال يومه حالماً دون أن يفعل شيئاً ليفاجأ بأن البيضة ضاعت إما بالكسر وإما بذهابها في جوف ثعبان. عودنا السيد الوالد- رحمه الله- على القراءة الحرة وإبداء الرأي دون خوف، وعلى الاطلاع اليومي على الصحف السودانية والأجنبية، ولكن الأمر اختلف كثيراً عندما دخلنا الحياة العملية خُدَّاماً في بلاط صاحبة الجلالة لصالح الوطن والمواطن. وجدنا في فترة التكوين الأولى أساتذة أجلاء تعلمنا منهم الكثير، وكان الصحفي الكبير الراحل المقيم محمد الخليفة طه الريفي هو أول أستاذ مباشر في حياتي العملية بصحيفة «الأيام» بداية التحاقي بها، تعلمت منه الكثير وتدربت على يديه وعدد من الزملاء، من بينهم زميلنا الأستاذ هاشم عثمان والأساتذة إبراهيم ألماظ وسامية عبدالرحمن وإشراقة إبراهيم وغيرهم.. وكان رحمة الله عليه يقول لنا إن الصحفي يخرج من بيته وهو يجر من خلفة مغناطيساً كبيراً، وعندما يصل إلى عمله يبدأ في فرز ما جذبه ذلك المغناطيس، يصنف ويعدل ويعرض. تعلمنا صحافة المشاهدة والرصد والتعليق، وهذه أساسيات في تنمية الحس الصحفي العالي، وكان الريفي- رحمه الله- ملك تلك الصحافة بلا منازع، وقد تتلمذ على يده كثيرون من بينهم أستاذنا الراحل المقيم سيد أحمد خليفة- رحمه الله- الذي كان يعتز بأنه أحد تلاميذ الريفي. لاحقاً.. أخذنا نعمل بموجهات تلك الصحافة الشعبية التي تعتمد على الصورة القلمية وعلى الصورة الفوتغرافية، وظل الكثيرون من أبناء جيلنا يحمل الكاميرا قبل القلم، وأخذنا نجوّد عملنا خاصة في تغطية الرحلات الداخلية والخارجية، ووجد هذا النوع من التغطيات رضى وقبولاً عظيمين لدى القراء.. اليوم أهدي لروح والدي الأستاذ محمود أبو العزائم، ولروح أستاذي الأول في الحياة العملية الأستاذ محمد الخليفة طه الريفي، ولأستاذي الثاني الذي أخذ بيدي في دروب ومسالك هذه المهنة الصعبة- التي أحبها- الأستاذ حسن ساتي رحمهم الله جميعاً.. أهدي صفحة (من غير ميعاد) التي يطالعها القاريء الكريم داخل هذا العدد.. والتي آمل أن تطل من وقت لآخر دون تحديد موعد معين، فهي تخضع للمشاهدات والرصد.. والمزاج.