بالأمس غادر دنيانا بغير رجعة زميلنا الصحفي الأستاذ محيي الدين خليل.. توفي بعد انتكاسة صحية أسرعت به إلى دار الخلود، وعندما كنا نواري جثمانه الطاهر ثرى مقابر الرميلة في الخرطوم، طافت بذهني تلك الأيام الزاهية التي تعرفت فيها بالأخ الكريم الذي رحل بالأمس، كنتُ في بدايات عملي الصحفي أواخر العام 1979م وبداية العام 1980م، وكان يتعاون مع صحيفة (الأيام) الغراء التي كانت وقتها واحدة من صحيفتين مع شقيقتها (الصحافة) إبان حكم الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري- رحمه الله- وكان الأستاذ محيي الدين يعمل آنذاك في وزارة العمل والإصلاح الإداري، أو هكذا كان اسمها.. تعرفت عليه وقتها واستمرت علاقتي به إلى أواخر أيام حياته. رحل الأستاذ محيي الدين خليل من جوار مكاتبنا في (آخر لحظة)، إذ كانت آخر مرة شاهدته فيها قبيل رحيله بأيام قليلة، وعندما تعرض لأزمة صحية- حسبنا أنها عابرة- وانتقل مع عدد من أشقائه وأبنائه ليكون تحت رعايتهم، لكنه انتكس بالأمس من جديد فانتقلوا به إلى المستشفى على أمل العلاج.. لكن الوقت كان قد أزف وموعد الرحيل حان.. قرأت صباح يوم رحيله مقالة مؤثرة كتبها الأخ الصديق الأستاذ عادل سيد أحمد في صحيفة (الوطن) الغراء عن الأستاذ محيي الدين خليل، أسماه فيها (أبو ذر الصحافة السودانية)، وكان هذا هو أقرب ما يكون إليه الراحل المقيم.. فقد عاش وحيداً ومات وحيداً.. وكنتُ أعجب طوال الفترة التي عرفت فيها الأستاذ محيي الدين من أنه أغلق باب العلاقات العامة في حياته مع الكثيرين، علاقاته كانت محدودة، ومع ذلك كان دائم الابتسام.. كان يقهر الأحزان بتلك الابتسامة التي لا تفارق شفتيه حتى في أحلك اللحظات، وقد نذر حياته للعمل الصحفي في جانب المنوعات، وكان انحيازه دائماً للقارئ الذي أحسب أنه قد استعاض به عن الآخرين، وكانت له عين ثاقبة وأذن لاقطة، يرصد ما لا يراه الآخرون ويسمع ما تتجاوزه آذانهم. يمشي في الأسواق ويجوب الطرقات ويعود إلى الصحيفة التي يعمل بها، ليفرغ على الورق تلك المشاهدات والملاحظات التي يحاول أن يسير بها على ذات الطريق، الذي اختطه أستاذ الأجيال الراحل وأحد آباء الصحافة السودانية الحديثة، أستاذنا محمد الخليفة طه الريفي- رحمه الله- لكن كان لكلٍّ طعمه ومذاقه ونكهته المميزة، ولازلت حتى يومنا هذا لا أرى منافساً للريفي في نهجه وعمله وعرضه للوقائع من زوايا قد لا تخطر على بال غيره. أما الراحل الأستاذ محيي الدين خليل فقد ركز كثيراً على الظواهر الغريبة، واقترنت مفردة (الدهشة) عنده بالكثير مما يراه، وكان يلتقط كل شيء في طريقه ليبدأ بعد أن يصل إلى مكتبه في التصنيف، وكان هذا منهج أستاذنا الريفي- رحمه الله- فقد كان يقول لي- وكنتُ أحد الذين تتلمذوا على يده- كان يقول لي إن رحلة الصحفي اليومية من منزله إلى عمله وما بينهما مثل حامل المغنطيس الذي يجذب الأشياء، وعندما يجلس على مكتبه يبدأ في التفريق بين ما جذبه ذلك المغنطيس كل في جانب.. وعلى حدة. بالأمس افتقدنا صحفياً زاهداً كان غارقاً في عالم الصحافة الخاص به الذي خصصه للقارئ فقط.. فقد عاش رهبانية صحفية، لا أحسب أنها سوف تتكرر لأن الذي عاشها هو محيي الدين خليل.. وقد رحل الآن.