لقد كانت الجلسة البرلمانية المخصصة لمناقشة المذكرة التفسيرية للوثيقة المرحلية لتخفيف حدة الفقر في السودان، كانت جلسة عاصفة، حمَّل فيها النواب وزير المالية ووزارته تفشي الغلاء وإرتفاع معدل نسبة الفقر في البلاد، إلى ما يقارب ال 50%، وانتهز النواب الفرصة ليعلقوا على رقبة الوزير كل سوءات الحكم، مثل ترهل هياكل الدولة، ومخصصات الدستوريين، وأخطاء السياسة والإدارة!! إن من الظلم وعدم الموضوعية تحميل وزيرالمالية ووزارته وحدهم كل هذه الإخفاقات والمشكلات الراهنة في البلاد، فالوزير ليس أكثر من رأس حربة في ملعب اقتصادي فسيح، يصنع اللعب فيه تيم متكامل من الخبراء وأهل الاختصاص، وأن وزارة المالية أداة فنية متخصصة ضمن منظومة تتكامل فيها عدة أدوات، تسهم جميعاً في التعبير عن الرسالة السياسية للنظام الحاكم، في مسرح محشود بالمؤثرات السالبة والداعمة محلياً وإقليمياً ودولياً. نحن نكابر ونتجمل حينما ندعي التخطيط الاستراتيجي، بينما يقع الآداء الحكومي والمجتمعي في الواقع «رزق اليوم باليوم»!! هل تذكرون شعارنا المجلجل الذي أسسنا وبنينا عليه الاستراتيجية ربع القرنية؟ أن أهم مفرداته استهداف أمة آمنة وموحدة ومتحضرة!! انفصل الجنوب وذهبت الوحدة الجاذبة أدراج الرياح، واختل الواقع الأمني مع الجارة الوليدة العدائية، التي أشعلت الحرب واضطرتنا لإعلان الجهاد والعودة للمربع الأول، ومرحلة ما قبل نيفاشا إن لم تكن أسوأ.. وكيف ندعي التحضر وأكوام القمامة تزداد طردياً مع ازدياد العربات المخصصة لنقلها!! وإن بصات الوالي تسد الطرقات في مركز العاصمة بدلاً عن تفريغها!! والكباري الجديدة مثل المك نمر وتوتي تعرقل السير في طريق الجامعة، لأنها فقط بلا أنفاق!! إن غياب الرؤية الكلية والتصور الاستراتيجي أدى إلى الارتباك الملحوظ في الصعيد الاقتصادي، حيث فشل المختصون حتى الآن في كبح جماح الأسعار المتصاعدة في كافة السلع «وقام نفس الجميع» لإيجاد بدائل عاجلة لدعم الموارد لإنقاذ الميزانية بعد ذهاب بترول الجنوب، غير أن أكبر الشواهد على حالة الإضطراب غير المسبوق في التعاطي مع الأزمة الاقتصادية الراهنة، القرار الخاص بتحرير سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني، أو محاولة التكيف مع القيمة الفعلية السائدة التي فرضها السوق الموازي، التي يتحدث المتعاملون في سوقها أنه لم تصدر حتى الآن المنشورات الرسمية اللازمة من البنك المركزي بذلك، التي تؤدي- حسب الخبراء- لتعديلات ضرورية في لوائح التعامل مع النقد الأجنبي. ليس غريباً أن تواجهنا أزمة اقتصادية أو غيرها، ولسنا بدعاً في دول العالم الذي يعج بالأزمات عموماً، والاقتصادية خصوصاً، بعد تفشي مظاهر الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت تبرز قبل عدة سنوات اختل فيها الميزان التجاري في الدول الكبرى، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأروبا، وعدم قدرة المؤسسات الإنتاجية الضخمة هناك على تلبية احتياجات المستهلكين، بسبب الإخلال بأولويات الميزانية، وزيادة الصرف على الأنشطة الحربية والسياسية وغيرها، مما أدى لإرتفاع الديون الحكومية، ولكننا ظللنا لسنوات ننكر أثر الأزمة الاقتصادية العالمية على أوضاعنا، وظللنا نهمل آراء خبراء الاقتصاد وعلماء الإدارة بضرورة إجراء إصلاحات جذرية وجريئة في منهج وهياكل البنية الاقتصادية، بدلاً عن المعالجات السطحية والمرتجلة والسياسات المبتسرة التي تتعامل مع العوارض ولا تنفذ لأصل المشكلة، وتأخرنا جداً في إيجاد البدائل الإنتاجية لدعم الموارد وتطوير الإنتاج، وجلسنا نحلم بعدم إنفصال الجنوب وحتمية الوحدة، حتى وقع الفأس في الرأس، وليتنا استجبنا بعد ذلك كله لآراء الخبراء والعلماء ومراكز البحث والدراسات التي نصحت الدولة بمعالجة الإنحرافات الفكرية والفلسفية والتشوهات الهيكلية، التي اعترت نظام الحكم الفيدرالي أو اللا مركزي، الذي تضخمت فيه الوظائف الدستورية والهيئات التنفيذية والتشريعية، وأهدرت فيه الموارد بغير رشد، أو عائد تنموي، أو إنتاجي، بل كان توسعاً غير مدروس لاستيعاب الكوادر السياسية المصالحة والمغامرين من الحركات المسلحة، تنفيذاً لإتفاقية نيفاشا وغيرها، مركزياً وولائياً، حتى أعجزت الوظائف الدستورية من يحصيها.. والأدهى والأمر أن معظم شاغليها ليست لهم الكفاية والقدرة الإدارية. أوصى الخبراء بضرورة استقلال الهرم الهيكلي لنظام الحكم الفيدرالي الذي تتسع قاعدته لاستيعاب الطاقات الخدمية والتنموية بالولايات، ويضيق رأسه الأعلى عند القيادة الإتحادية، التي يكتفي فيها بهيكل رشيق محدود الوزارات والهيئات التنفيذية، محدود الواجبات والتكاليف السيادية والتنسيقية.. ولكن رغبة صناع السياسة لجعل الحكومة والجهاز التنفيذي مشروعاً لاستيعاب السياسي، ومظهراً للوحدة الوطنية أكثر منه جهازاً لخدمة الأمة وتطوير الإنتاج، أدى بنا الى الواقع الراهن.