عاد بذاكرته المضطربة المشوشة الى الوراء.. تتقافز الصور في ذهنه لكنها بلا ألوان.. أبوه يرفع حذاءه الثقيل بعد أن أشبع عقب السيجارة عفصاً.. ورغماً عن مكانها الوضيع.. فإنه يجمعها بسرعة ثم يخرج الى أطراف الحي مع صديقه ليكملا ما تبقى من أنفاسها المحتضرة.. في المرحلة الثانوية احترف التدخين.. وارتضى لرئتيه أن يحقنها كل يوم «بمصل الموت» .. ها هو الآن يعاني إدمان المخدرات.. وضياع الهوية.. وفوات الآمال ..! تزاحمت داخل العلبة، كل واحدة تتمنى إلا تلتقطها يد المدخن «لتحرقها بالزناد وتحرقه بسم الدخان المحتبس».. سيأتي دورك حتماً طالما أن من اشتراك أقسم أن تلقي حتفك.. قبل أن يلقى هو حتفه ..! أعجبته.. بنضارتها.. وثقافتها.. امراة عاملة.. ناجحة.. شابة من أسرة عريقة.. تقابلا .. وقويت بينهما أواصر الحب.. وتعددت اللقاءات بعد أن رفعت الكلفة بينها و بينه.. أخرجت علبة دخانها يوماً وأشعلتها.. شيء ما في داخله تغير.. تلون الحلم بلون الدخان وصار رمادياً.. «خاطب ذاته» .. كيف أتزوج من امرأة تحمل سجائرها مع رضاعة الحليب لصغاري..؟! وماذا سيقول أهلي..؟! إرث تليد من الأعراف والدين والتقاليد بددت المشاعر.. رويداً رويداً.. حتى اضمحلت .. «ربما في بلد غير السودان يا سيدتي ..!» ترادف السعال.. وأزيز الصدر الضاج.. حد الحشرجة.. الأنفاس متقطعة.. سمع صوت صراخ في الحي يعلن عن زيارة ملك الموت.. قام بتثقال.. كان آخر الواصلين.. صدره يعلو ويهبط.. وكأنه أكمل لتوه «ماراثون العشرة آلاف متراً».. صعود الدرج كارثة.. الهرولة مستحيلة.. ترحم على جاره.. وحمل النعش الى المقابر.. أشعل سيجارة.. لتشاركه الأحزان.. سمع حديث ابن المرحوم .. «سرطان الرئة» قتل والدي.. لم نكتشف إلا في آخر الأيام رغم تحذير الأطباء.. لم يقلع عن التدخين ..! رمى صاحبنا السيجارة من يده.. ووهجها الأحمر يضيء بشارة التحذير ..! زاوية أخيرة: جاهل من يشتري كفنه بحر ماله.. التدخين سحابات من الوهم.. تحيطك بهالة كاذبة من النشوة القاتلة ..!