خلاصة ما قلناه في الحلقة الأولى هي، أن السيد الصادق المهدي لم يعد زعيماً بزخمه القديم! وذكرنا هناك أنه لم يعد قادراً على مواجهة متطلبات المرحلة الحرجة التي تمر بها الدولة في السودان.. ظهر ذلك جلياً في المغامرات الثلاث: المشاركة المترددة في الانتخابات، والثانية محاولة غير موفقة للقفز من قيادة الحزب والتراجع دون مبرر مقنع، والأخيرة مباركته دخول القصر وما كان ممكناً إلا بمباركة منه. لم يبق أمامنا نحن المشفقون من خارج حزبه إلا التشبث به مفكراً اسلامياً، كنا من قبل ننتظر فتاويه لتنظيف ثقافتنا الإسلامية من الخرافة «مثل إمامة المرأة، نزول عيسى، حكاية المهدى، الثقافة الجنسية» *** في هذه الحلقة نستعيد تجاربه القديمة، لأننا حتماً سنجد المفيد الذي يعين الأجيال وستقف على نهجه السياسي وآراء الخصوم فيه. في صراعاته السياسية تميز بخصوصية غير مسبوقة ب«سودانوية» نقية.. في محتوياتها متناقضات: أبوة مغلقة وديمقراطية. للأنا نصيب وللأخر نصيب، في ثقافاته الخرافة والفكر المعاصر!!. في علاقاته السياسية غير المستقرة كان أشبه بحصان الشاعر العربي «إمرؤ القيس» مكر مفر مقبل مدبر معاً. الذي يعضد صدقه هو منهجه السياسي، أو صورته التي ظل عليها منذ ترؤسه لحزب الأمة 1964م. السودانوية الصرفة التي يعبر عنها، جعلته غير مرحبٍ به في أوربا وأمريكا والبلدان العربية.. تتعامل معه أمريكا بحذر شديد، والسبب هو الاستقلالية الخشنة والنكهة الدينية، أما هذه الاستقلالية والأنفة السودانية هي سبب كراهية العرب له.. لم يعرف عنه أنه ارتمى في حضن بلد عربي «السعودية ومصر» كما انتهي إليه كل الحكام الحكومات العسكرية الثلاث.. بل هناك مسافة ما تفصله عن هذه الحكومات، وهو في الأصل لا يعادى أحداً بحكم نزعته الديمقراطية، ولا يملك حتى تلك الأجندة الخفية التي كانت لدى «الإنقاذ» في أيامه الأولى ولكن كبرياءه غير مبرر لدى الحكام العرب! إضطر المصريون والليبيون للتعامل معه كراهة في «الإنقاذ» لكنهم كانوا يحتضنونه وهم يخشون لعابه! ومما يؤخذ عليه أنه أعلن تعاطفه مع القذافي في أيامه الأخيرة!!هذه «السودانوية» السياسية خلقت له أزمات كثيرة، وحتى وهو بين صفوف المعارضة، أحياناً كان يهرب من المعارضة في الوقت المناسب مفضلاً مرارة التعامل مع الحكومات العسكرية في الداخل.. يبدو أنه كان يهرب من الأحضان الخارجية إذا اشتدت مطالبها.. هكذا بدأ بالمصالحة مع النميرى في لقاء بورتسودان عام 1977م، ومع «الإنقاذ» تاركاً التجمع في القاهرة ولا يشبهه في ذاك إلا أبناء الشريف الهندي «حسين وزين العابدين». والآن أمام استغراب الجميع، قبل أن يخوض انتخابات مستحيلة مع حزب مسيطر على كل شيء: لا حقوق للخصوم ولا بيئة ديمقراطية، قبل بهذه المغامرة مضحياً بآخر خمس سنوات بقين من عمره، لأنه سيبلغ الثمانين في الدورة التالية، يقول أنصاره: إنه فتح الباب واسعاً لديمقراطية سودانية في المستقبل، ونحن نقول إننا عندما أيدناه كنا نريد المصلحة العامة قبل مصلحته الشخصية للمدى البعيد، وقد قالوا لعمر رضي الله عنه: لم يؤثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بك الأثر رضي أن يدخل السباق مكتفاً وعارياً من أية معينات. لا يملك الأموال ولا يحق له أن يأخذ من الخارج، وهذا في عرف «الإنقاذ» خيانة للوطن!! وكانت النتيجة هي تعميق السيطرة السياسية «الإنقاذ». والغريب أن برامجه السياسي الذي قدمه كان جاداً ومسئولاً وفصلنا ذلك في إصدارة كتبناها في حقه بعنوان «الأنفة المستحقة» أما النتيجة كانت أن حكومة البشير استفادت من مشاركته ولم يخرج الإمام إلا بمزيد من التآكل المعنوي. كل الذي استفاده أموال دفعت اليه لا ندرى حتى الآن من الذي دفعها، ومن أجل ماذا ولماذا دفعت قبل الانتخابات بأيام معدودة؟!! آراء الخصوم الأثر الطويل لمفعول أبواق النظام العسكري أو لعدم الدقة في التشخيص أو لأغراض المنافسة السياسية والغيرة الشخصية، يتهمه خصومه بحب السلطة والمراوغة والفساد الحزبي والاستغلال الطائفي. الغريب في حكاية حب السلطة هذه، إنهم يغضون الطرف عن عسكري دخل بالشباك، ويطاردون آخر دخل بالباب! أحرام على بلابله الدوح وحلال على الطير من كل جنس؟ حب السلطة ليس عيباً في حد ذاته، ولا شماتة فيه لأنه مغروس في الفطرة البشرية، والذي لا يحب السلطة ليس جديراً بها، وعلى العكس من هذا المعني إذا تقاعس زعيم بهذه المواصفات بملاحقة السلطة في ظروف كهذه سيكون آثماً. فليس من حقك أن لا تتقدم الصفوف للصلاة إذا كنت أكثرهم علماً، والهارب هنا ككاتم الشهادة. ويبدو أن هؤلاء يشكلون هاجساً في وعي هذا الزعيم، يقول إنه لم يتقلد منصباً إلا «بطلب من أحبتي»، ولم يدخل المجال السياسي إلا بمثل ذلك الطلب.. وإذا اعتقد خصومه أنه ظل عمره كله يتصيد السلطة، فلا يملك لهم سوى «قل كلّ يعمل على شاكلته». أما الوسطية أو البحث عن الحلول الوسطى أو التقية هي في الأصل نوع من الالتفاف حول العقد المستعصية، ولكن ثقافتنا المحلية لا تتحمل البقع الرمادية، لأنها تعودت على أحد النقيضين الأسود أو الأبيض، لهذا يجنح لاعتبار هذا الأمر كأنه نوعاً من المراوغة والتنصل. أما الفساد الحزبي والطائفي كان موجوداً ولا يجب أن ينكره أحد، ولهذا الزعيم جانب من المسئولية، ولكن يكفي أنه يمكن كشفها وملاحقتها في النظم الديمقراطية، ولا مقارنة البتة بين فساد الحكومات العسكرية، وفساد أحزاب الحكومات الديمقراطية.. ومن سوء الحظ أن عمر الحكومات العسكرية طويلة جداً لا يتركون الحكم إلا بعد أن تصبح الأزمة ثقافة. ما قاله هذا الزعيم بالصوت العالي بأن يديه نظيفة من دماء وأموال الأبرياء لا يستطيع أن يقوله «عبود والنميري والبشير». حتى اخفاقاته في تنفيذ ثالوثه المعهود «الديمقراطية والتنمية والتأصيل الديني» سببها أن الديمقراطية كانت تخنق في المهد قبل أن تمتحن بمهلة زمنية كافية، بسبب ضيق الشريحة العسكرية التي تفقد الامتيازات في فترة الديمقراطيات. هذه الامتيازات في آخر ميزانية للدولة بلغت كلفتها «خمسة آلاف مليار جنيه» أي 77% . استطاع أن يحقق الديمقراطية بامتياز، أما التنمية في النظم الديمقراطية آثارها في البدايات الأولى غير منظورة، لأنها تبدأ بتنمية الإنسان وثقافته، وهذا عكس ما يحدث لدى الحكومات العسكرية، يستطيعون بضربة واحدة أن يجلبوا القروض والخبرات الأجنبية لبناء السدود، دون مراعاة لحقوق المتضررين لتمرير أهداف سياسة، ولكن سرعان ما تضيع الثمار في ظل الاستبداد السياسي لغياب المساءلة وانتشار الفساد والجهل الفني. في عيون الأجيال عندما تصبح تجربته جزءاً من التاريخ، ستقرأ الأجيال اخفاقاته في سياق انجازات أخرى، فمثلاً: لا نستطيع أن نحاكم اجتهادات وفتاوى المهدي الكبير مهما كانت درجة قبولنا أو رفضنا لها، لأنه أنجز ثورة ضخمة لا يختلف عليها اثنان.. وهذا الإنجاز في حد ذاته دليل على أنها لامست وقائع حية في ذلك الزمان، أو على الأقل استطاعت أن تخترق الظروف التي اكتنفتها. وبالمثل لا نستطيع أن نحاكم عهد الإمام الثاني عبد الرحمن المهدي في علاقته بالانجليز، ولا تسليم السلطة للجيش، لأنه أنجز الكيان الأنصاري وأسس الحزب، وأرسى قواعد البنية الاقتصادية للحزب، وهكذا سيكون الأمر مع أجيال قادمة عند تقييم تجربة الصادق المهدي... فلا أحد هناك سيقول عنه إنه كان محباً للسلطة غامضاً متعدد المواقف، مستغل للأغلبية الجاهزة- كما يحلو لخصومه الآن- لأنهم سيقيسونه بأكبر إنجازاته وهو ترسيخ قيم الديمقراطية في السودان، وعصرنة الوعي الديني السوداني.