عندما كانت تشتد عليه الأزمات كان يركض في اللفة وبالحكم والأمثال يسبر غور الأوجاع في ذاكرة المواطن لايقاظ مكامن الثورة!! بالمفردات الشعبية المشحونة حاول أن يوسع من دائرة النقد السياسي . في وقفة سابقة مع تجارب السيد/ الصادق ، قلنا أن «الانقاذيين» عندما احسوا بضيق الدائرة على الأحزاب التقليدية القديمة ، رسموا للسيدين سيناريو « النهاية المشرفة» وذلك بادخال أنجالهم في أروقة القصر. بمباركة تلك الخطوة أنهى السيد الصادق دوره السياسي ، وباعتباري من المعجبين بهذا الزعيم عالجت أحزاني بالتسلي بالدور الفكري الذي كان وما يزال يقدمه. لم يكن زعيماً سياسياً فحسب، بل هو في الأصل مفكراً اسلامي، لفتاويه دورٌ كبيرٌ في تنظيف الثقافة الدينية من الخرافة كثافة التجارب العملية وضرورات مسئولية الطرح، يجعلهما هو والشيخ الترابي يقدمان نماذج عصرية للشيخ المعاصر. صدما الوعي التقليدي بنقلاتٍ نوعيةٍ أو إحياء فتاوى قديمة كان مسكوتاً عنها في عناوين مثل : إمامة المرأة ، التثقيف الجنسي ، نزول المسيح .. وأخطر ما أفتى به إمام الأنصار هو التخلص من حكاية المهدى المنتظر .. بالقول أن الذي يعنيهم من فقه المهدي الكبير هو الراتب! هذه القدرات الفكرية واللغوية كان يهرب اليها عندما تشتد عليه الأزمات. في خطبه وأحاديثه الكثير من الحكم والأمثال والقول السائر ، آيةٌ قرآنيةٌ وبيت من الشعر. في الخطاب الذي ألقاه عقب تقديمه لأوراقه للجنة الانتخابات ، تجد آيات قرآنية وأمثال تقليدية ، منها : يرد على من اتهموه بحب السلطة بآية قرآنية (قل كل يعمل على شاكلته) ، ويختار من الشعر العربي القديم مثل (حنانيك بعض الشر أهون من بعض) ، وهو يبرر قبوله لانتخابات (دون المستوي)، ويختار مثلاً عربياً تقليدياً قديمًا، وهو يحمل مسؤولية المحكمة الجنائية لحكومة (الانقاذ) والمثل (على نفسها جنت براقش)وقد يستعين بكلمات من النثر العادي لوصف حكومة (الانقاذ) بأنها للجباية لا للرعاية ، أو هتافاتهم المشهورة (لا للسلطة ولا للجاه . هي لله هي لله) بأنها شعارات أطلقها الطمع وكذبها الواقع. هكذا هي البلاغة الطبيعية ولا جديد فيها ولكن أخطر أدوات هذا الزعيم اللغوية مأخوذة من مفردات العامية السودانية والأمثال المحلية ، لهذا خصوصيته البلاغية سودانية أكثر من أنها عربية صرفة. قبل أن نحدد آثارها الخطرة في تحريك الساحة نقف في عجالة على نماذج منها: 1/ وهو يحذر الناس من الإنقلابات العسكرية ، باعتبارها ( أداة بلهاء) في العمل السياسي ، قدَّم شعرًا من تأليفه الخاص: من تمطي باسماً ظهر النمرحتماً سيأكله ويبتسم النمر والمعني ! كما هو واضح ! من تحالف مع الانقلابيين لابد أنهم سيغدرون به، والانقلابات حتى ولو نجحت في بداية المشوار ، لابد أنها ستنتهي ب ( بونابرتية) يقصد بها الزعيم الفرنسي نابليون الذي استولى على الثورة وأحالها الى (دكتاتورية )في نهاية المطاف. يصنف الانقلابات كتصنيف مرض السرطان، والغريب أنه يقبل بنوع من الانقلابات ويسميه بالانقلاب(الحميد) مثل : انقلاب سوار الذهب في أبريل 1985م! 2/ وهو يسخر من شعارات ( الإنقاذ) (ناكل مما نزرع ونلبس مما نصنع ). قال : (هذا الشِّعار أكله الدودو .. وأصبحنا نضحك مما نسمع)كبسولة صغيرة جداً من مفردة عندما يفجرها تتقاذف عشرات الصور المتحركة(الدودو) حيوان خرافي كانوا يخوفون به الأطفال اذا ألحوا في طلب شيٍء . إذًا أراد أن يشرح لنا كيف استخفت (الإنقاذ) بعقول الناس ، لما كانت هناك مفردة أبلغ من هذه . أما بالثانية فقد قضي على الباقي تماماً، لأنها حملت الإيقاع والمعنى وهي بذلك أسرع للأذهان ..(نضحك مما نسمع) فلا تملك سوى أن تضحك وكفى!! 3/ في صراعاته الانتخابية كان يحث أنصاره، بأن لايفوتوا مصلحة تأتيهم بسبب أصواتهم الإنتخابية ، فيقول لهم ( أكلوا توركم وأدو زولكم) ، والآن يقول لهم إذا جاءكم من أنصار الحكومة شيء فأقبلوه(بِضَاعتكم رُدَّتْ اليكم) ولكن دون أن تبيعوا ذممكم. 4/ حدث أن هناك اتفاق قد تم بين خصومه السياسين. عن هذا الاتفاق قال قولته الشهيرة بأنه(كزواج العزبة) وهذا كنايةً على عدم الاكتفاء به وغياب القيمة لأن (العزبة) لا تشترط وتقبل بأي شيء.ٍ 5/ يبدو أنه عندما عاد الى السودان في إحدى المرات ، طلبوا منه المشاركة في السلطة، ولكنه رفض هذه العجلة والكلفتة ووصفها بأنهم(دايرين يمشِّطوها بي قَمُلها) يريدون تصفيف شعرها قبل تنظيفه من الأوساخ والقمل ويردمون الجرح بصدِّيده. 6/ حذر من الاستعانة بالجهلاء في ادارة الأمور بقوله (ألما يعرف ما يدو الكاس يغرف) 7/ زايد يساوي ناقص!! وهو يتكلم عن قضية الانشقاقات الكثيرة التي حدثت بين صفوف حزب الأمة ، يقول (ادرسوا النتائج العملية وليست الشكلية) ستجدون أن أكثر الذين خرجوا عن الحزب كان انشقاقهم رحمة!! وذلك لأن في السياسة أحياناً ( زايد) يساوي (ناقص) وناقص يساوي ( زايد) المعني هنا، كأنه يقصد أن أحدهم قد يخرج من الحزب وقد حمل معه كمية هائلة من الشرور والفتن ، وخروجه هنا أنفع من بقائه ، والكلام هنا أقرب لمفهوم الآية (لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ) استطاع هنا أن يوظف ضبابية المعاني الرياضية للإلتفاف بذكاء حول الأزمات المزمنة، وهو هنا على الأقل في الجانب الشكلي مقنع! 8/ وصف السيد نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية بأنه (بِدُقْ في الرُّكب) ، يريد بذلك أنه يفعل ما يريد ويقول ما يشاء!! معروف عن نافع أنه يعبر في تصريحاته النارية، عن اهوائه السياسية بطريقةٍ مكشوفةٍ دون تحفظ، أشهر تصريح ناري كان في قوله :(سيبقي البشير في الحكم رغم أنف الجميع) يعتبر نافع أبرز مركز قوة في (الإنقاذ الثانية)، أفرزته الأوساط الأمنية، واستطاع بجدارة أن يتغلب على الرموز السياسية القديمة ، هرب بعضهم الى(الشَّعبي) وانسحب أكثرهم الى ظل المصالح الشخصية ، ومن بقي منهم يصارع سماهم (نافع) بالمتفلتين.حسم البعض بالبطش الأمني وعالج البعض الآخر ب(بندول نافع)، وهو إسكات أصواتهم ببعض المسكنات كالمنافع الشخصية والوظائف. لهذا يقرر الصادق أن ( نافع غير نافع) في معالجة الملفات السياسية ، لأن السياسة تحتاج الى إنسان(مفكك الصدر) ، قادر على رؤية الأشياء الحساسة ، وليس الضيق والحرج. 9/ كانت تحفظاته على اتفاقية ( نيفاشا) إنها : صنيعة أجنبية أبعدت عنها القوى الوطنية الأخرى واكتسبت (الإنقاذ) منها شرعية على حساب المجموعات الأخرى. وعندما لم يجد من يستمع اليه وصف الاتفاقية بالبقرة المقدسة أي لا يقربها أحد ولا فائدة منها. 10/ كلما مررت بموقف الخرطوم الجديد ، أتذكر كلامه وهو يسخر من انجازات الإنقاذ ( يكسروا الأوضة ويبنوا راكوبة ) وهذا الخراب يسمي إنجاز!! 11/ تنبأ بأزمة المحكمة الدولية مبكراً وقال قولته الشهيرة :( حيقبضوهم قبض القَبَور) ، ولم يأت زمانه بعد ولكن الحراك المخيف المصور في هذه المفردات البسيطة وضحت ملامحه في ( ظرف أوكامبو) 12/ أما حكاية الصراعات الداخلية وسط الإنقاذيين ومراكز القوة فقد عبر عنها بجدارة لغوية فائقة الالتقاط في قوله ( الإنقاذ سرجها مليان دبايب) لم يترك بذلك باباً يدخل به من يريد التحالف مع هؤلاء!! هكذا نستطيع أن نبقي مع عشرات بل مئات الأقوال السائرة التي يطلقها السيد الصادق المهدى ، أما الخلاصة التي نريد أن نخرج بها هنا هي : أن عشقه لوطنه امتدت جذوره لأعماق بعيدة حيث الجمال في نقائه الأول ، والشاهد أيضاً أن اصطناع أجواء هذا التراث لا تتم دون أن يكون لصاحبه تعايشاً كافياً مع هذه الأجواء. الفوائد 1/ بهذه اللغة الشعبية المشحونة ، كأنما يريد أن يخاطب أولاً قاعدته الأنصارية .. وعند هؤلاء كان مثل هذا الأدب شائعاً ، والصَّادق لا زال في مرحلة (الوليد) وقد عبروا عن التزامهم بإمامة أبناء المهدي بالقول الذي ظل سائراً بينهم في الستينات(لو قال الوليد طق النهود (تنشق) ، ويعنون بهذا أن الأنصار جاهزون في اقصي غرب السودان لمناصرة حفيد المهدي في الخرطوم. 2/ بالمفردات المشحونة حركةً ، يجتذب هوى الذاكرة التراثية لتصل الفكرة فتتسع دائرة النقد السياسي لتتعمق آثار التجربة الديمقراطية. 3/ بتحريك اللغة الحية في اللغة المحلية يتم إحياء التراث . أى يجعل الماضي يمشي في الحاضر ويالها من قدلة يرتاح لها الشعب السوداني الذي يفضل ماضيه أكثر من حاضره!!. 4/ بمفرداته تلك يعمل على إعادة بث صور الأوجاع والمعاناة في ذاكرة الغافلين، لايقاظ ضرورة التغيير والثورة. الباعث المادي لا يعمل في نفس الإنسان الا إذا تحول الى شعور أخلاقي أو فكرة أدبية. 5 /بلاغة الأمثال الشعبية دواء ناجع لأمراض احتقار الذات. مظاهر هذا المرض تتجلى في السباب الذي يكيلونه صباح مساء في المركبات العامة والطرقات على البلد (المانافع). مقولات وأمثال الصادق كانت تبدأ أولاً بلمس الأوجاع والمعاناة من خلال إثارة الصور والأفكار المخزونة في النفس السودانية ، والتراث أصلاً ُلْحمةٌ داخلية من صور وأفكار. هنا يجد الإنسان نفسه وقد غرق في وجدانه ، وأمام ألق الذات الثقافية يزهو الإنسان بنفسه ويقرأ العبقرية في لغة أجداده!. مثل ضعيف هكذا كانت تنضج اللغة في أتون المعاناة الطويلة ولكن يبدو الآن بمصالحته للسلطة سيفقد هذا المحرض. قبل أيام معدودة يقول وهو يصارع حلفاء(الإنقاذيين) أنهم ب(البايظ دايرين ينزلو دو) لم يكن موفقاً في إيراد هذا المثل فهذه اصطلاحات قديمة لمجالس الكتشينه عفا عليها الزمن ولم تعد مفهومه، الشباب لن يفهمها وكبار السن من جيل السبعينات والثمانينات لن يحترموها. في أحسن الأحوال سيعتبرونها مجرد تلاعب لفظي غير مفيد.