قال تعالى:(لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) صدق الله العظيم هكذا جاءت خواتيم سورة يوسف.. قصصاً لا إفتراء فيها.. ومصدقة لما بين أيدينا من القرآن.. ومفصلاً فيها كل شئ.. وفيها الهدى والرحمة للمؤمنين.. تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد.. ومن الضلال إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد كما جاء في تفسير ابن كثير.. ويقول الإمام القرطبي في أحكام القرآن الكريم في تفسير قصصهم.. إنها قصة يوسف وأبيه وإخوته.. أو في قصص الأمم.. وفيها فكرة وتذكرة وعظة، وقال ابن إسحاق عن الزهري عن النيمي محمد بن إبراهيم بن الحارث ابن سيدنا يعقوب عاش مائة وسبعاً وأربعين سنة، وتوفى أخوه عيصو معه في يوم واحد، وقبرا في قبر واحد.. فذاك قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم) إلى آخر الآية وفيها ( مما يحتاج إليه من الحلال والحرام والشرائع والأحكام)، وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يارسول الله لو قصصت علينا.. فنزل (نحن نقص عليك أحسن القصص) في أسباب النزول .. آه فالقرآن يعلمنا كتابة التاريخ. وقد تشعب الحديث بيني وبين الأستاذ الصديق مصطفى أبو العزائم رئيس تحرير العروس (آخر لحظة)، والكاتب الكبير والرجل الرقم في دنيا الإعلام والفن والتاريخ، وكان محور الحديث عن كتابة التاريخ وتوثيقه للأجيال القادمة، وهو يقرِّظ محاولاتي المحدودة في كتابة بعض الوقائع عن مايو 1969م، ويوليو 1971م وما فيهما من حوادث ومحاكمات وشخصيات وأحزاب.. ويرى الأستاذ وجمهرة من القراء في ما كتبت (فائده)!! وهي شذرات وإشارات لا تغنى الباحث المحقق والكاتب المؤرخ شيئاً إلا النزر اليسير، وبعض الأسماء من قضى منها نحبه ومن ينتظر.. وكنت قد تمنيت على الأستاذ مصطفى أن تجتهد أسرة آخر لحظة في تنفيذ فكرة مركز المعلومات، والذي أجازه مجلس الإدارة منذ حياة الأستاذ حسن ساتي ( رحمه الله)، وبقي في البال والخيال مع ضرورته الملحة، وقد كشفت للأستاذ عن خطتي لاصدار كتاب توثيقي عن بعض تاريخ السودان الحديث، عنوانه (السودان بين مايو ويوليو) ليغطي الفترة من 25/5/1969م وحتى (اليوم)، وما بينهما حتى نهاية العام 2010 بإذن الله.. فما وراء الأكمة ما وراءها.. بعد هذا التاريخ، وقد شكَّلت مع مجموعة متجانسة تفرغ نفسها لانجاز هذا العمل في زمن قياسي، بعد إخضاعه للتدقيق والمراجعة التاريخية، فمن الصعوبة بمكان كتابة التاريخ وأبطاله أحياء، لما في ذلك من الحساسية والحرج الاجتماعي والسياسي، ولكن ما علينا لأن هناك شهوداً على العصر يصعب الحصول على إفاداتهم بعد حين، هذا إن لم ينتقلوا إلى رحاب الله، ولدينا خطة واضحة وقوائم بالمراجع واسماء الورثة لمن توفي إلى رحمة مولاه، والله من وراء القصد. الأستاذ مصطفى رأى أن تتبنى الدولة مثل هذا المشروع، خاصة وأن لجنة عليا قد شكلت لهذا الغرض، وهي تضم كبار الأساتذة من المؤرخين والباحثين والأكاديميين.. قلت له (نعم)، لكن مشروعنا لا ولن يتعارض مع ذلك المشروع الكبير، وعلينا أن نبادر بهذا الأمر ونجتهد فيه ونجهزه ونصدره.. وعند ذلك يمكن للدولة أن تعيننا لأنها تحب الانجازات (تسليم مفتاح)، ولا نحتفل بوضع (حجر الأساس) الذي قد يقبع في مكانه بلا تقدم، حتى يتحول إلى مصدر سخرية من الدولة أو القائمن على أمر المشروع.. فوافقني الرأي.. وشرع في الترويج له عبر نافذته المشرعة والمقروءة.. (بُعد ومسافة).. مما وضعنا أمام تحد حقيقي.. ولتشد الكاتبة والقانونية زينب السعيد حيلها. سمعت من الدكتور حسن الترابي (قبل المفاصلة) قوله إن السياسيين السودانيين لا يكتبون مذكراتهم- وهو واحد منهم- لأن البلد مليئة بالانقلابات والانقلابات المضادة والاعتقالات، إذ لا يعقل أن يدون شخص ما أسباب إدانته بعد مدة قد لا تطول!! ولكن الصحيح كذلك إنهم أصلاً لا يكتبون مذكراتهم اليومية، والتي ستتحول إلى مادة شديدة الفائدة والأهمية بعد تركه الموقع أو وفاته (أي الأجلين أقرب)، حكي لي المرحوم الأخ الأستاذ كمال التلب إنه سافر إلى الريف الانجليزي ليقابل مستر جراهام صاحب كتاب (السودان موت حلم)، ليستأذنه في ترجمته للعربية، وكان ذلك قبل سنوات، وسأل التلب الكاتب كيف احتفظت بهذه التفاصيل؟ فقام الخواجة وفتح دولاباً يحتوي على الأجندة السنوية طيلة فترة بقائه في السودان، وطلب من التلب أن يطلع على ما يشاء منها.. وفتح التلب بعض المذكرات، فوجد صفحاتها مليئة يوماً بيوم بما لبس وما أكل، وما شرب، ومن قابل، وماذا قال!! وإلى أين تحرك وهكذا فإذا ما فتحت مفكرة أي سوداني ستجده قد اهتم بالكتابة في الأيام الأولى من السنة أو الشهر الأول، وبقية صفحات المفكرة أكثر بياضاً من الثلج.. ولا أستثنى إلا الدكتور اللواء الركن الطيب إبراهيم محمد خير فذاك نسيج وحده.. لا يترك شاردة ولا واردة إلا وكتبها برسمه الخاص للحروف، ويكرر كتابة الكلمة عدة مرات حتى يطمس ما كتبه ويحفظه عن ظهر قلب في ذات الوقت، ويستطيع استرجاعه من هذه الشخبطة متى أراد. أمة بلا تاريخ أمة بلا مستقبل.. أكتبوا التاريخ ليشهد لكم أو عليكم فالتاريخ لا يجامل أحداً. وهذا هو المفروض