الصيف في بلادي يثير أحياناً شئ من الضيق والملل، وكثير من الرهق والتعب، غير انه ورغم عشقنا لهذا الوطن الجميل، إلا انه لابد ان نعترف باننا نعيش في بلاد يحترق ريش عصافيرها من شدة الحر، ورغم ذلك يبدع المبدعون ويعطرون الاماسي بالفوح الجميل والبوح الاصيل، وفي نفس السياق فقد ابدع المبدعون في وزارة الثقافة، وجاء ابداعهم في عز الصيف نسمة مفرهدة وفراشة مجنحة علي ضفاف المقرن الجميل وعلي مقربة منه، ازدانت قاعة الصداقة بالخرطوم بالثريات وحواري الثقافة، وألق الحوريات عرائس النهر اللاتي خرجن من بين ضفائر الموج الأزرق الجميل، الذي يهفو لليل الأخضر النبيل، وصهيل الإبداع وترانيم الخليل، وشقشقة عصفور السودان إبراهيم عبد الجليل، فانداح الافتتاح بوحاً وشعراً وغناءً وطرباً طرباً، وضاقت خاصرة القاعة بمن هرعوا اليها لحضور مهرجان الثقافة الخامس الذي عطر (ليالي السودان) واكد الكلام ان ذلك (يا هو دا السودان) بدأ المهرجان بنفحة افتتاحية خاطبها ذاك الفتي الأسمر الوشاح الرائع الجناب واسمه (تيراب) إنه مصطفي تيراب وزير الدولة بوزارة الثقافة، وكان قد تغيب الوزير السموأل بسبب تلقيه العزاء في والده. بدأ المهرجان في امسية يوم 13 يونيو الجاري وسيستمر حتي الأول من يوليو القادم، وفي حضرة المهرجان وفدت كل ملامح السودان فتمهرجت عبقرية الزمان والمكان وجاءت (ليالي السودان) جدلة عُرْس علي جبين إنسان السودان.. جاء السودان من كل مكان .. جاء السودان وجاءت بشائر الدُّعاش، والمطر وجاء أحمد سعد عمر ممثلاً لرئيس الجمهورية، وثلةٌ من الولاة، وجمعٌ وثيرٌ من أهل الثقافة، حيث تم تخصيص يوم لابداعات كل ولاية. وهكذا استأذنكم يا سادتي في ان أتحدث قليلاً عن وزارة الثقافة وقياداتها، ففي أروقة الوزارة ثمة بذار للنُّوار والأزهار، ينمو علي مهلٍ في المزهريات المصفوفة علي جنبات أروقة الوزارة التي تتجمل بثلاثية الجمال، وأولهم ذاك الفتي الحنطي الوشاح السموأل خلف الله الذي حوله الدنيا يا ناس تبتسم، وكيف لا يكون ذلك وعلي مقربة من مكتبه يتوهج ضوء القمر، ويأتلق صهيل الشعر الموشى بحبات المطر التي تتكئ علي ثغر (سيد الاسم) الدنيا يا ناس تبتسم بتوقيع (كامل الدسم) مستشار الوزارة الشاعر الشاهق كامل عبد الماجد، وثالثهم الذي جاء اليهم متأخراً ولكن لحق بهم علي أي حال انه رب السيف والقلم وريحانة الأصحاب مصطفي تيراب .. قلت رب السيف والقلم علي خلفية ان الرجل كان ضابطاً سابقاً في القوات المسلحة السودانية، وقلت رب القلم لأنه مثقف جدًا ويده التي أمسكت بالسيف قد استطاعت الإمساك بالقلم، وليس هذا غريباً، ودونكم البارودي الذي حمل السَّيف والقلم، وكان شاعراً جميلاً ومن رواة الشعر في عهد أحفاد الاخشيد. السموأل يا سادتي إنسان فوق العادة، فهو يتفجر ثقافة وقيافة، ويطل بوجهه دوماً عبر نوافذ الشمس ويرى ما لا يرآه الآخرين، وكذلك يرى المزهريات في أروقة الوزارة بمثل حماس جهود (الأروقة) القديمة!! التي جاءت به الي اروقة الوزارة. في ليلة افتتاح المهرجان اكتمل وجه القمر وتمهرج الضياء والمساء في براحات الغناء والشعر والموسيقي والحكايات القديمة .. وجه تاجوج المنور. .. وفاطمة القصب الأحمر وأبيات الشِعر وخصلات الشَعر التي تلزم الكتف وبعضها يتهدل علي الهودج المتوثب، الذي اذا تنهد تحسبه أسد يزأر. انها يا سادتي (ليالي السودان) لقاء فوق السِّحاب.. السموأل وتيراب ويا سبحان الله، فقد جاء اللقاء وجهان لقطعة عملة معدنية واحدة.. وجه يحمل الحب، ووجه يحمل الذهب، فالسموأل يا صحابي طرح فكرة المهرجان وكان قد استقاها السموأل من فكرة برقت في دقات عقل (علي عثمان) بعد حضوره لمهرجان السياحة ببورتسودان واستماعه لترانيم أحفاد (محمد قول) واهازيج أحباب (ايلا) وسحر البحر الذي يودع سره في عيني عرائس البحر. الفضل كله يعود لأهل الفضل الاستاذ أزهري الفضل الذي وضع ومعه آخرين خارطة الطريق لثقافات أهل السودان، لكيما يغزو بها كل ولايات السودان، ولكن ويا سبحان الله فقد أتت الي المهرجان كل ولايات السودان جميعها بدون(فرز) وهي تحمل كل ثقافات السودان من (ضهاري) نمولي سابقاً وحتي أطراف الجرجار في حلفا القديمة. وقلت (ضهاري نمولي ) لانها ما عادت نمولي، وما عاد جنوب السودان جنوباً وانما اصبح (دولة جنوب السودان) التي بكي علي تابوت ميلادها حفيد (اكونا) منقو زمبيري. ولا تأخذكم الدَّهشة يا صحابي في ان يكون للميلاد تابوتاً وهذه قدرة الله عز وجل ان يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ودولة جنوب السودان ولدت ميتة، ورغم ذلك يصر رئيسها علي انها حية وهو حي، ولكن كل الدلائل تشير الي ان دولة الجنوب ورئيسها يعانون علي الاقل من الموت السريري الذي يمكن ان يصبح في أي لحظة موتاً حقيقياً لو سحبوا منه الأنابيب.. خاصةً أنابيب النفط التي تمثل له ولبلاده إكسير الحياة والمعادلة ستظل صعبة.. نفط الموت عندهم، وأنابيب الحياة عندنا، فاذا سحبنا الأنابيب ماتت الحياة عندهم. عفوًا يا سادتي لهذا الاستطراد، ولكن أين لي وانا في حضرة الثقافة السودانية؟ التي كان يوماً جنوبياً هواها واصبحت اليوم اسرائيلياً مداها .. ثقافة حفلات (الترم ترم) التي كان عرابها(عربي جوبا) الذي كان ولازال القاسم المشترك للغة التخاطب بين القبائل الجنوبية المختلفة فهل يا صحابي يتحول (عربي جوبا) الي (عبري جوبا) والله أعلم في ان يتحول رعاة البقر الامريكان الي (بقارة) في السودان وبذلك تضيع الثقافة السودانية وتحترق في أفران الغاز وتذرو الرِّياح رمادها، وتضيع من خارطة الطريق الثقافة السودانية، ولكن علي أي حال لن تضيع ثقافة السودان وهي في حضرة (ليالي السودان) هذا المهرجان الجامع الذي خاطبه الاستاذ مصطفي تيراب وزير الدولة بوزارة الثقافة الذي جاء حيياً مع الشعر والشعراء والحكامات واهل الدوباي والهداي والمديح والإنشاد النبوي ومدائح البرعي واهل الطرب والعرضة والفنون الشعبية ومشاجنات امكيكي والطنبور والوازا والصُّفارة والنُّقارة والنِّحاس والدُّنقر . أخاف يا سادتي من ضياع هذه المسميات والثقافات الشعبية، التي وردت في خطاب تيراب، هذه الثقافة التي وحدت يوماً أهل السودان واصبح الجميع يستمعون وبشغفٍ بالغٍ الي البرنامج الاذاعي الشهير (في ربوع السودان) الذي يجوب كل الثقافات السودانية الممتدة حدادي مدادي. أخاف ان تضيع منه هذه الثقافات، ويأتي اليوم ونستمد ثقافتنا من ثقافة (الريدر دايجست) ومجلات (البلاي بوي) وثقافة أندية العُرَاة. أخاف من كل ذلك يا سادتي، وحتي لا أخاف أقول لأهل السُّلطة دعوا الثقافة تنمو وتزدهر، وألا يشمل وزارة الثقافة قرار التقليص، ومفاجآت وحرائق رفع الدَّعم عن المحروقات. إذاً فلتبقي الثقافة السودانية كرة ثالثة في دمائنا مع كرات الدم البيضاء والحمراء، حتى تعطينا القدرة على الحياة.