محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دارفور وتسونامي سقوط الأنظمة الإستبدادية: أفق جديد لمعالجة شاملة -5- .. بقلم: أحمد ضحية
نشر في سودانيل يوم 01 - 04 - 2011


تراكم المشكلات وإنفجار الأزمة ..
منهجيا يجد الباحث في مشكلات دارفور , أنها أشبه بالتراجيديات الكلاسيكية, فيما يخص زمنها التعاقبي ,الذي يمكننا خلاله فرز تعقيداته ,وتقسيمه كمسار زمني , وفقا لفترات محددة, هذه الطريقة بالإمكان أن تفضي- في التحليل النهائي- للإمساك بعوامل تفاعلاتها , وإمتلاك قوانين تطورها.كأزمة مستمرة في الإقليم.
فمشكلات دارفور بعد 30 يونيو 1989 ترتبط جذريا بمشكلاتها , على عهد الحكومة الديموقراطية الثالثة . ومشكلاتها في تلك الفترة ,ترتبط كذلك بمشكلاتها في العهد المايوي ,وهكذا.. كل حلقة من مشكلات دارفور, تفضي لحلقة أخرى في الحقبة التى تليها. ومن هنا كل المشكلات, التي عانت منها دارفور قديما , تنهض في تشكيل حاضرها الكارثي.
شهدت دارفور حقبة من الإزدهار في حواضرها , كتب عنها الرحالة ,وأرخوا لها في إنبهار..إلا أن هذا الإنبهار , تخللته فترات خراب , نتيجة الصراع بين السلطة الحاكمة , والخارجين عليها , وبسبب القبائل المتناحرة .كما أن خرابها دائما ,كان تاليا لهزيمة السلطة الحاكمة, من قبل قوى خارجية (هزيمة الإدارة الأهلية من قبل المركز- مثلا) ,وأول خراب معروف لدارفور ,كان في 1874 , إثر هزيمة السلطان إبراهيم قرض , على يد الزبير باشا. تلى ذلك سلب ونهب للديار , وتهجير قسري إلى مصر.
وقد سارت على هذا المنوال ,كل الإدارات التركية المتعاقبة , على حكم دارفور.وما تبع ذلك من ضنك في سبيل القضاء , على ثورات متتالية . من المنادين بالسلطة , من أبناء دارفور . وخربت دارفور ثانية إبان الحكم المهدوي , فرغم أنها ناصرت الثورة المهدية منذ إندلاعها ,إلا أنها ذاقت الأمرين ,بسبب سياسة الخليفة للتهجير القسري ,ما أدى إلى إخلاء المنطقة سكانيا (وهو ما يفسر وجود الملايين من أبناء دارفور في الوسط).
وقد تجسدت نقمة دارفور ضد المهدية ,في ثورة أبو جميزة سبتمبر 1888 حتى فبراير 1889. التى إلتف حولها الآلاف . وبعد القضاء على ثورة علي دينار في 1916 نهضت في 1921 ثورة الفكي عبد الله السحيني ,التي أرهقت الإنجليز.ومن ثم عدد من الثورات , والحركات السياسية التي نهضت على إستحياء, وصولا إلى حركة داؤود بولاد في 1991 ,والتي أثارت رعب الجبهة الإسلاموية (1) .
إذن تاريخيا , إنطوت دارفور على روح الثورة والتمرد ,وأسهم في تغذية هذه الروح , بُعد الإقليم , ووقوعه في ظل السلطة المركزية,ما أسهم سلبا .إذ أدى إلى أن تظل دارفور حبيسة إنغلاقها ,على الفقر والجهل والمرض , إلى جانب وقوعها في تخوم الزحف الصحراوي , وتعرضها للجفاف في فترات مختلفة , ما ترك آثارا عميقة .إذ إنحسرت المساحات الشاسعة, من الأرض الصالحة للزراعة , وأعترت التركيبة السكانية تغييرات (خاصة أن دارفور ظلت طوال تاريخها ,تستقبل هجرات من غرب أفريقيا وغيرها) بسبب النزوح بسبب الحرب أو الجفاف من تشاد وغرب أفريقيا وشمال دارفور وغربها(والتمركز خصوصا في منطقة وادي صالح, والجنوب) ,أي الجنوب والجنوب الغربي من دارفور..
وهكذا شكل الضغط السكاني على إقليم منهار تنمويا , عاملا مهما في إنفجار الأزمة (صراع الموارد) فالموارد رغم محدوديتها , تزاحم عليها عدد كبير من مختلف البقاع ,التي تعتبر دارفور عمقا إستراتيجيا لها,والعكس...
إذا أضفنا إلى ذلك سمات المجتمعات التقليدية (المجتمعات القبلية), كمجتمعات قابلة للإحتراب , لأي سبب من الأسباب : (مثل المشكلات التي تنشأ بين الرعاة والمزارعين), نجد أن مجتمعات دارفور , لم تهدأ حالة الصراع القبلي فيها , إلا لتنفجر مرة أخرى .. وهنا ينبغى أن نتوقف قليلا عند بعض المفاهيم المنهجية , حول المجتمعات القبلية أو الإثنيات ..
الجماعات السلالية الثقافية :
من المصطلحات التي تسللت إلى الفكر السياسي .من القاموس الإجتماعي , "مصطلح الإثنية" , أو "الجماعات السلالية", والذي يعني : جماعة ذات تقاليد ثقافية مشتركة . تتيح لها شخصية متميزة , كجماعة فرعية في المجتمع الأكبر , لهذا يختلف أعضائها من حيث خصائصهم الثقافية عن الآخرين , في جماعات أخرى . أو في المجتمع . وقديكون لهم فضلا عن ذلك, لغة خاصة أو دين خاص , وأعراف مميزة . وربما يكون الشعور بالتوحيد ك " جماعة متمايزة من الناحية التقليدية " ,أهم ما يميز هذه الجماعة بوجه عام (2) وعلى خلفية ما تقدم في الحلقات الأولى من هذه السلسلة من المقالات , نجد أن الأقليات العرقية أو الدينية أو الثقافية , يمكن أن تصاب بخوف ظاهر, ذلك أن المجموعة العرقية الكبيرة , التي يمكن أن تدعي أن الدولة ملك لها (أوهي دولتها- كما تعتقد الآن عصابة الجبهة الإسلاموية, وكذلك ظل حزب الأمة والإتحاديون يعتقدون ) - أو تابعة لها - بمعنى ذراعها القوي ), وبالتالي فإن الأقليات يمكن نعتها , في هذه الحالة بالطابور الخامس,والعملاء والخوارج والجهويين , إلخ ..كما ظل الجلابة تاريخيا ينعتون المهمشين ,و كما حدث ويحدث مع أهالي دارفور غير العرب. اليوم وللمرة الثانية . إذ أن نميرى قد نعتهم من قبل, بالعنصريين والمرتزقة في 1976(3) .
من المفيد هنا أن نشير إلى أن الدولة في السودان , تعتبر كل المجموعات غير العربية " أقليات" - وأتحفظ هنا على هذا المفهوم. , إذ أعتقد أن هناك مجموعات بمثابة القوميات , وفقا للمفهوم الأوروبي التقليدي للقومية . والمجموعات العربية تساكن هذه " الأقليات " - والذين هم لطالما سعت الحكومة المركزية, أن تجعل منهم وكلاء لها! "- الصفوة الإسلاموعربية - في الجغرافيا التي يقطنونها مع هذه الأقليات "المجموعات غير العربية " ,لكن هذه الفرضية في المحك العملي , ظلت تتعثر ,ولم تتحقق نسبيا إلا على عهد الجبهة الاسلاموية القوموية , إذ أنها ترتبك " تاريخيا- كفرضية " بفعل بعض الوقائع , ففي فترة المهدية ,وعندما جعل المهدي , الخليفة عبد الله التعايشي في المرتبة الأولى (وغني عن القول أن الخليفة من عرب دارفور) أثار ذلك حفيظة المجموعات العربية الشمالية = أولاد البحر " أوالأشراف" =عرب الدرجة الأولى,وفقا للتراتبيات التي صاغتها الصفوة الإسلاموعربية , فعبر عن هذا الغبن شاعرهم الحردلو :
ناسا قباح من الغرب يوم جونا
جابوا التصفية ومن البيوت مرقونا .
أولاد ناسا عزاز متل الكلاب سوونا
يا يابا النقس يا الإنجليز ألفونا .(4).
وهي كلمات شبيهة بما عبر عنه البروفيسور الراحل عبد الله الطيب,من نزوع عنصري ضد الجنوبيين ,بعد أحداث توريت في 1955.إذ إستدعى البروف الراحل ,روح جده الزبير باشا رحمة ,للتنكيل بهؤلاء العبيد الأنجاس المناكيد ,الذين يجب أن تسلط العصي على ظهورهم دائما وأبدا.
ومن هذه الكلمات, التي ينضح منها الإستعلاء والصلف والغرور, الذي لا تدانيه سوى محمولات "الطيب مصطفى - الإنتباهة",يتضح مدى العنجهية القبلية, التى وصلت بالحردلو وعشيرته من الأشراف, إلى درجة الإستنجاد بالإنجليز ,للخلاص من بني جلدتهم ,أمثال الخليفة التعايشى ,الذي هو حسب التراتبية عربي درجة تانية!.
ويمكنك عزيزي القاريء, التوقف طويلا عند عبارة مثل ( أولاد ناسا عزاز ), لإستكناه فحوى المحتوى المعرفي والدلالي لها ,(5) في الواقع القبلي الإستعلائي للعرقيات السودانية الشمالية , ونظرتها للآخر غير الشمالي , فهو ليس من سلالة حسب ونسب ( ليس عزيزا ) مثلهم ..كذلك يمكنك تأمل: "ناسا قباح" وفقا لما يذهب بك خيالك ,في حدود التأويل المعقول!..
إذن عاشت مجتمعات دارفور ,عبر تاريخها حالة من الصراعات , التي تتجدد بين فترة وأخرى (6) ولكن بإستمرار كانت تعالج , ضمن تقاليد وأعراف المؤسسة القبلية التقليدية , لهذه المجتمعات ."الإدارة الأهلية " , وهي أعراف وقوانين مستمدة في أغلبها من "كتاب دالي" الذي أشرنا إليه فيما سبق . ولم تتطور مشكلات دارفور , لدرجة حرب طاحنة بين معسكرين (العرب ضد غير العرب) , إلا إبان ديموقراطية الصادق المهدي (86-1989) والفترة التي تلت ذلك , أى عهد الحكومة الإسلاموية الراهنة . ففي كلتا الفترتين وقفت الحكومة مع القبائل العربية ضد غير العرب, ولذلك لدى فرزنا لمشكلات دارفور , يمكننا الإشارة إلى أن المرحلة الحالية ,هي أسوأ مراحل الخراب في دارفور , بسبب السياسات الهوجاء لحكومة رعناء تجعل من أمثال قوش ونافع وغيرهم قادة أجهزة خطيرة منذ 1989 من جهة . وبسبب تواطؤها السافر ,لإحلال مجموعات عربية جديدة ,مستوردة من غرب أفريقيا ,لتغيير التركيبة السكانية نهائيا وبصورة حاسمة؟! من جهة أخرى ..
المشروع الإسلاموي للإنقاذ :
منذ إستقر أمر السودان للإنقاذ ( الجبهة الاسلاموية القوموية ) ,وهي لا تشذ عن سابقاتها من الأنظمة العسكرية والطائفية, بإعتبارها لدارفور مركز معارضة محتملة . لذلك توجهت نحو دارفور "كملف أمني عاجل" . فكانت أولى مهامها ,ضرب البنية التحتية للمجتمع الدارفوري . حتى يسهل تفكيكه وإعادة تشكيله من جديد . من خلال سياستي الإستقطاب والتصفية . ومن هنا جاء تفكيكها للإدارة الأهلية . وأثننتها للسياسة , بمجهوداتها المختلفة التى رمت إلى تكريس الإثنية , وواصلت الجبهة الإسلاموية, مشروعها التدميري في دارفور ,خصوصا بعد الإعلان عن حركة وجيش تحرير السودان(عبد الواحد نور) ,وهكذا بالتعاون مع مجموعات الجنجويد والمليشيات العربية المتحالفة معها, كانت المواجهات التي نرى آثارها التدميرية, ماثلة حتى الآن, في المشهد الدارفوري.
أستطاعت حكومة الخرطوم الإسلاموية إذن, أن تضم إلى صفوفها ( مليشيات الجنجويد ) وترفدهم كذلك بمحاربين "مرتزقة" إسلامويين, إستجلبتهم من الدول المجاورة ( تشاد - موريتانيا – بنين,إلخ...) , لإعانتها على حملة السلاح من أبناء دارفور.
وهكذا تغيرت طبيعة الصراع في دارفور , من صراع محلي عادة , إلى صراع يستهدف إبادة غير العرب . بل فقدت كلمة جنجويد ضمن هذا السياق, معناها القديم : فهي كلمة قديمة الإستعمال في دارفور , وتعني :"الشباب المنفلت من قبيلته" . والذي لا يتورع عن إرتكاب الجرائم , من نهب وإعتداء على الغير.تجاوزت مفردة جنجويد هذا المعنى, لتصبح معادلا موضوعيا مباشرا, لا للشباب المنفلت فحسب, ولكن كمعسكر للعرب ضد غير العرب؟!
وعلى الرغم من المطالب الأوروبية , والأمم المتحدة, بوقف هذا النشاط ضد المدنيين , والسيطرة على المتمردين . إلا أن الحكومة الإسلاموية الحاكمة في الخرطوم, وجنجويدها ومليشياتها العربية لم تأبه لذلك , مستقوية بدعم مصر و دول الإقليم العربي,الذين يكاد يجن جنونهم الآن, ضد الفظائع التي يلاقيها أشقائهم في ليبيا ,من قبل إبن جلدتهم القذافي! ,فقد أعرب الأشقاء عن موقفهم المتواطيء ضد الدارفوريين بوضوح لا لبس فيه , في المؤسسات الإقليمية والدولية.وهو موقف لا يختلف عن مواقفهم التاريخية, ضد مشكلة السودان في الجنوب,إتساقا مع "أنصر أخاك ظالما ومظلوما" ,بمعنى معاكس تماما للمعنى المراد,إذ إستحال المعنى المراد عند العرب إلى "أنا وإبن عمي المستعرب"لكنه يعتقد أنه عربي" على غير العرب".
ويلاحظ أن نشاط هذه المليشيات , قد إمتد إلى داخل تشاد , ما جعل الرئيس التشادي " إدريس ديبي" , في مرحلة سابقة ,من مراحل الصراع ,يطالب الحكومة السودانية ,بوقف الهجمات التي يشنها حلفاؤها الجنجويد ,إنطلاقا من حدودها ,للتخريب في تشاد (7) .
وهكذا إستطاعت الجبهة الإسلاموية , تفجير كل الأزمات المختزنة ,في البنى الإجتماعية, بوتائر متسارعة , وذلك لطبيعتها الآيديولوجية الإسلاموعربية . في جغرافيا تعج بالتنوع والتعدد والتباين . ولأن مفهوم الدين الاسلامي في السودان ,أرادت له الصفوة أن يولد متطابقا مع مفهوم "الهوية / العروبة " حمل خطاب الإنقاذ هذا الملمح المأساوي, للثقافة الإسلاموعربية في السودان . فالدين العربي / الإسلام .والعرقية/ العروبة بمعنى سيطرة النخبة الإسلاموعربية . وسما تجربة الإنقاذ منذ إستيلائها على السلطة . وكان ذلك أحد عوامل إنقسامها ,في المفاصلة الشهيرة =أولاد الغرب ضد أولاد البحر,التي تمخضت عن حركة خليل إبراهيم والمؤتمر الشعبي .
وجدت الحركة الإسلامية في السودان في 1989 , أن السودان على مشارف التفكك , وبدلا عن محاولة التعامل, بروح المسئولية تجاه الوطن الواحد .والجدية لمعالجة هذا الوضع المأزوم , مضت لتصعيد الحرب في الجنوب, وتصعيد القلق والتوتر في دارفور , ومحاولة سحق جبال النوبة. بل وأكثر من ذلك, أعلنت الحرب ضد جنوب النيل الأزرق.
هكذا عمدت الجبهة الاسلاموية, لإعتماد الخيار العسكري, لحسم المشكلات الحقيقية والفعلية التنموية في الهامش,غير آبهة للمطالب المشروعة . وهنا ينبغي علينا إبتداء, إدراك طبيعة الحركة الإسلاموية في السودان .. والتي دفعتها لاحقا, للتعامل مع دارفور بهذا الشكل . وعلى النحو الذي نشهده الآن ..
فاقم السلوك السياسي للجبهة الإسلاموية الأزمة في دارفور, فقد عمد الإسلامويون ,إلى إعادة تقسيم الإدارات الأهلية, بغرض الكسب السياسي وإضعاف الخصوم " حزب الأمة " , ما أدي إلى تنامي العصبية , فقد حلت الهوية العرقية - في التقسيم الجديد - محل الهوية الإقليمية , التي كانت سائدة في الماضي , والتي كانت تستوعب الهويات الإثنية على تعددها (8) .وقد جرى هذا التقسيم في المناطق الهامشية عموما.دون الإعتبار إلى أن هذا المليون ميل مربع (مساحة السودان الشمالي والجنوبي معا) به حوالي 570 قبيلة تستخدم 595 لغة محلية . وقد أعاد الباحثون تصنيف هذه القبائل في 56 أو 57 فئة إثنية , على أساس الخصائص اللغوية والثقافية والإثنوغرافية الأخرى . وقد قلص تعداد 1955 هذا التنوع ,بإعادة تجميع المجموعات الإثنية ,إلى ثمانية مجموعات رئيسية تمثلت في: العرب 39% - النوبا 5% - النوبيون 5% - الجنوبيون الشرقيون 5% - والأجانب 7% إلخ ..ومعايير تقليص هذا التنوع بالتصنيف وإعادة التصنيف, ليست واضحة دائما وإعتباطية غالبا . لكن ماهو كاف وله صلة , هو حقيقة أن هذا التنوع اللغوي, موجود داخل دولة واحدة , تطمح مثل غيرها لأن تكون دولة قومية .
معظم هذه المجموعات القبلية, لها مناطق محددة تقليديا وتحمل إسمهم: دار زغاوة : إنتماء للزغاوة – دار مساليت : إنتماء للمساليت و ( دارفور - إنتماء للفور ) ,إلخ ..وهي رغم التفاعل المتصل مع المجموعات الأخرى - تعيد إنتاج نفسها إجتماعيا في إستقلال عنها . ولذلك هناك تغيرات يحفزها التفاعل مع مجموعات أخرى, ضمن الأطر الإقليمية والقومية , وتلك التي تحدث بسبب الحراك السكاني , بالهجرة إلى أجزاء أخرى في القطر , وهناك ما يحدث نتيجة ,تأثير مؤسسات وسياسات الدولة, وينتج عنه درجة كبيرة من الإستمرارية الثقافية ,والمرونة الإجتماعية - الثقافية,والتي هي موجودة داخل كل مجموعة على حدة , فقد تختفي بعض اللغات, مثلما حدث للبرتي والبرقيد في دارفور .
لكن التقاليد الثقافية تبدي ثباتا كبيرا عبر الزمن . وقد حلت اللغة العربية محل اللغات الأصلية للمجموعتين أعلاه . لكن التقاليد الثقافية , وأشكال التنظيم الإجتماعي , التي هي من فرادة البرتي والبرقيد , تميز هاتين المجموعتين عن جيرانهما , مثل عرب الزيادية الأبالة . أو المسيرية أو مربيي الماشية شبه المستقرين .
وبينما تتشارك هذه المجموعات في الأرض,فهي تعيد إنتاج ثقافتها ولغتها, بمعزل عن الأخرى.حتى اللغة العربية ليست شيئا متجانسا , فهي تبدى تباينات كبيرة في اللهجات مثل : عربي الفور - وعربي جوبا . والعربية السودانية- الفصحي - والعربية الكلاسيكية . إلخ .. بل هناك تباينات كبيرة في اللهجات , حتى في إقليم مثل دارفور (9) .
لم تعتني الجبهة الإسلاموية بالحقائق, التى يطرحها هذا الواقع المتنوع .ثقافيا والمتباين حضاريا , فقدمت نموذجها ( المشروع الحضاري) وفقا لإلتباس : تطابق ( الهوية / الدين ) متغاضية عن كون الدين , لا يمكن أن يحل محل الهوية , بحكم طبيعة كل منهما . فالدين نص , والنص تأويل ( معنى) , تأويل مولد للدلالة , ينصب فيه الإنسان ذاته مصدرا للمعرفة (10) .
وتاريخ الحركة الإسلاموية, تميز بأحداث وفترات معينة , شكلت مراحل الصعود ,والهبوط والنمو والركود , وقد حدد الترابي ما أسماه ( معالم سيرة الحركة الاسلامية الحديثة في السودان ) ,بحسب عهود ومراحل : " عهد التكوين " ( 49 - 1955 ) في الأوساط الطلابية , بالإضافة إلى رافد شعبي محدود , متأثر بحركة الأخوان المسلمين المصرية .
تأسس أول مؤتمر عام للأخوان في عام 1954 . وتم إختيار إسم الأخوان المسلمين. ثم كان عصر الظهور الأول :(56 - 1959 ) حيث توصلت الحركة ,إلى أهم أسباب إنتشارها مستقبلا , وهي:التنظيم الجبهوي أو التحالفات الواسعة , على أساس برنامج عام . لذلك كان قيام " الجبهة الإسلامية للدستور " في ديسمبر 1955.
تلى ذلك ما أسماه " عهد الكمون الأول " ( 59 - 1964 ) ,وحتى فترة الحكم العسكري الأول , ثم عهد الخروج العام: ( 1964- 1969 ) أى فترة الديموقراطية الثانية . وتأسست خلال هذه الفترة جبهة الميثاق الإسلامى . في ديسمبر 1964. حيث تم إختيار حسن الترابي , أمينا عاما لها .
بعد ذلك يبدأ ما يسميه عهد المجاهدة والنمو: ( 69 - 1977 ) أى من إنقلاب نميري حتى المصالحة معه . وآخيرا عهد " النفح " الذي يمتد حتى إنقلاب يونيو 1989 (11) وهو إمتداد لعهد التمكين (إبتداء من الإستيلاء على السلطة في 1989 ) .
نواصل
هوامش :
www.darfurinfo.orgLalidinar.htm (1)
(2) التعدد الإثني والديموقراطية في السودان . ( أوراق مختارة من ندوة التعدد الإثني والديموقراطية في السودان / الخرطوم 18-19/مايو 2002-قاعة الشارقة )تحرير: دكتور حيدر إبراهيم علي . الطبعة الأولى القاهرة 2003. ورقة أ. أحمد ضحية :( تحديات الديموقراطية والتعدد الإثني ) . ص : 101.
(3) السابق . ص : 19 .
(4)أ - قد تكون أول حالة تمييز "بارزة" معروفة في التاريخ الإسلامي والعربي , هي حالة الخليفة عثمان بن عفان (رض) ,عندما كان ثمة إعتراضات من الصحابة عليه . قولهم :" ليحملن إبن أبي معيط بني أمية على رقاب الناس " وواضح من هذا الإحتجاج , قصدهم أنه سيولي بني أمية المناصب السياسية أو الخدمية المدنية , في ذلك الوقت . وبغض النظر عن كفاءتهم .
- ب / يبدو أن السودان يمثل حالة كلاسيكية للمجتمع التعددي المنقسم , بما أسماه هاي أيكشتاين : الإنقسامات الإنشقاقية . وقد تكون هذه الإنقسامات : دينية , لغوية , آيديولوجية , إقليمية , ثقافية , عنصرية وإثنية " قبلية "..
ولا تصبح كل هذه الانقسامات بارزة ,في كل سياقات وأوضاع الوجود السياسي السوداني .وكثيرا ما يخضع بروزها أيضا, إلى مقتضيات مكانية وزمانية ومعينة . وعلى سبيل المثال قد لا تصبح اللغة العربية , كلغة تخاطب مشتركة , مشكلة في الحياة اليومية الإجتماعية . لكنها تصبح إنقساما بارزا ,في سياقات نظم التعليم الوطنية الرسمية . أو في الأوضاع ,التي يهدف إلى فرضها على القوميات أو الإثنيات الأخرى . بميل نحو التفوق العنصري , والإخضاع الناتج عن الربط بين اللغة وحاملها العرقي , أى الهوية العربية .
أن عربي جوبا , يستخدم يوميا , ويستخدم شباب الجنوب النازحين - فيما مضى - إلى مدن الشمال, بسبب الحرب . اللغة العربية بينهم . وكذلك غير العرب في دارفور . لكن هذا الإنقسام اللغوي يصبح إشكاليا ,من الناحية السياسية والإجتماعية ,عندما تفرض الدولة اللغة العربية .
ج- ينقسم المستعربين(العرب) السودانيين ,إلى العديد من المجموعات الإثنية , مع وجود تمايزات ثقافية وتنوعات واضحة في اللهجات , وما هو عربي في السودان متباين جدا . فقد يجد العربي من سكان المنطقة الشمالية ,معاناة في التواصل مع العربي البقاري من غرب السودان . بالمثل قد ينظر هذا العربي بإزدراء إلى السوداني العربي البقاري " الدارفوري", وفي الواقع فقد تضمن الإنقسام التاريخي, الذي قاد إلى المواجهة المباشرة ,بين الخليفة عبد الله التعايشى والأشراف , إنكارا من الأشراف لجدارة الخليفة المنتمي للتعايشة " عرب دارفور " . وبعيدا عن العروبة كسمة عنصر , وليس إكتسابا ثقافيا , لم تظهر آراء تختصر تعدد المجموعات العربية في السودان, إلى قاسم مشترك يسمى عربا , لأن العروبة كمكتسب ثقافي , تتقاسمه العديد من المجتمعات العربية في السودان . والتي ليست هي عربية من ناحية العنصر . ولكن عندما تكتل نخب الدولة ,مختلف المجموعات العربية , رغم تباينها ثقافيا في مجموعة واحدة , بحيث تنتحل هذه الفئة دور الأغلبية التي تحدد هوية سودانية جديرة بأن تفرض على الآخرين . كطريقة أكثر مشروعية للحياة ,هنا ترى المجموعات غير العربية, عنصرية ضمنية في هذا الموقف , وتواجهها بمختلف الوسائل . إن إنكار قيمة الآخرين أو نعتهم "بالعبيد" أو "الزرقة", في إقليم جميع سكانه "زرق" هو : سيطرة ضمنية.
د - هذا التشاحن من الأشراف ضد الخليفة ,هو ما دفع الخليفة في مكان آخر ,في أحد المجالس عندما بدأ الاشراف بالفخر بأنسابهم , أن يمسك الربابة , وينشد :
نحن الغرابة , شرابين المريسة
عيال البحر نضمهم ساكت
نحن جدنا النبي عيسى ...
(5) السابق . ص : 131.
(6) راجع : علاقات الأرض . لمحمد إبراهيم نقد . ص : 19 - 22 : حيث يشير الأستاذ نقد ,إلى أن الإتساع الجغرافي والتعدد العرقي , وجد إستجابة عند سليمان صولونج , كرجل دولة مؤسس , فقام بتقسيم السلطنة (على النحو الذي أشرنا إليه سابقا) كما صاغ إبنه السلطان موسى , سياسة عامة حول ملكية الأرض فى السلطنة . فجرد شيوخ العشائر والقبائل من سلطاتهم, وقاعدة إستقلالهم الإقتصادي, وركز السلطة الإقتصادية والسياسية المطلقة في يده . وهكذا تطور أداء دور الدولة المركزية في دارفور .
- راجع : فترة إنتشار الإسلام والسلطنات (1641 - 1821) لدكتور قيصر موسى الزين . ص : 92:حيث يقول : ساد نظام شبه إقطاعي علاقات الإنتاج الزراعية في السلطنة , وكان أكثر إحكاما ومركزية من نظام سنار , وكانت كل الأرض من الناحية القانونية ملكا للسلطان , وتخضع لإشراف إداري هرمي .على رأسه السلطان .
- راجع : علاقات الرق في المجتمع السوداني . لمحمد ابراهيم نقد . ص: 204 : يشير نقد هنا إلى أن المساليت مارسوا الإسترقاق عنوة بالحرب أو الغزوات على الفرتيت - ومارسوه عرفا على بعض قبائل الفور , التى نزحت نحو ديارهم , هربا من جيش الزبير باشا في 1874. ومرة أخرى عندما سيطر الأنصار على دارفور .
عندما قرر سلطان المساليت أن يتخلص من حامية الأنصار في أراضيه 1888 . إستبق الخيل والسلاح والجهادية السود , وأعطي أولاد العرب أحذية وقرب ماء , وطلب منهم الإبتعاد عن داره. كذلك مارس المساليت السبي المتبادل بين القبائل المتحاربة , فكثيرا ما سبى المساليت زوجات وبنات سلطان وأعيان الداجو . وبادلهم الداجو المعاملة بالمثل , وقد تستعيد القبيلة السبايا بالفدية, وهذا يعطي فكرة عن رواسب الصراعات القبلية في دارفور تاريخيا , خاصة الفترة السابقة لضمها ,بواسطة الانجليز 1916 إلى السودان .
(7) www.islam today .netLarticlesLshow_articles_content.cfm?catid=76&arid=3753. (8) (8)التعدد الإثني والديموقراطية في السودان. مرجع سابق . ص : 42.
(9) د/ شريف حرير - تيرجي تفيدت . السودان النهضة أو الإنهيار . ترجمة . مبارك علي . مجدي النعيم . مركز الدراسات السودانية . القاهرة . ص : 20 .
(10) علي حرب . النص والحقيقة . ( نقد الحقيقة ) . طبعة ثانية القاهرة 1995 المركز العربي الثقافي . ص : 20 - 26 .
(11) دكتور . حيدر إبراهيم علي . التيارات الإسلامية وقضية الديموقراطية . طبعة أولى 1996. مركز دراسات الوحدة العربية . ص : 283 .
نواصل
دارفور و تسونامي سقوط الأنظمة الإستبدادية: أفق جديد لمعالجة شاملة (6)
أحمد ضحية
الأزمة في دارفور ومشروع الجبهة الإسلاموية
تكمن إشكالية أفكار الترابي , في تحقيق هذا التوازن الدقيق بين الوحي والنص من جهة , والتاريخ والواقع من جهة أخرى . ويستنجد بقاموس من مفاهيم ,يستعملها دون تعريفها أو تحديدها إصطلاحيا . فهو يكتب عن تجديد الدين أو الفقه أو الفكر الديني , وتتداخل كلمات " تدين " , " فقه " , " فكر " و" دين " . وتستخدم في سياقات مختلفة , فهو يجد حرجا أحيانا في الحديث عن تجدد الدين , ما يعني ضمنيا التقليل من ثباته وتعاليه . ولذلك يفضل مفهوم الفكر الاسلامي (1). ويستعجل الترابي قيام حكم إسلامي , وهنا يعني الحدود الشرعية فقط . فهو يقول بأن نحكم بالإسلام , ثم نفكر في تطوير السياسة الدينية وتجديدها , أى كأنه بالتجريب والخطأ , مما لا يصح في المجتمعات الإنسانية , وقد يصح في المعامل والمختبرات . وعلى كائنات أخرى .
فهو يرى أن الحيل الشائعة, لتعويق إقامة النظام الإسلامي , الإعتراف بضرورة التمهيد له , بإجراء دراسة عميقة , حتى نتبين مقتضى الدين , فنطبقه حكيما غير معيب , مراعاة لخطر الدين ووقاره , وعدم إقحامه بعفوية ,وحذرا من تشويه الإسلام والتنفير عنه (2)
يرى الترابي أن أولويات السياسة للتيار الاسلامي , أن يجاهد لتغيير النظم اللادينية . الظالمة . وهو يتبسط في أطوار الجهاد والأساليب المتخذة, في معارضته النظم القائمة . ونجد أن الحركة الإسلامية السودانية , منذ نشأتها وحتى وصولها إلى السلطة . جربت ممارسات كثيرة في العمل السياسي , قربتها من هدفها , أى الوصول إلى السلطة , ولم تكن الوسائل ذات أهمية كبيرة , من ناحية إتساقها مع الغاية , لأن الغاية السامية المتمثلة في إحياء الدين وتطبيق حكم الله , كانت تبرر الوسيلة (3) وعلى الرغم من أن الحركة الإسلامية لم تعلن , خلال الستينيات موقفا معاديا من الديموقراطية , بصورة مباشرة . إلا أن حقيقة إستراتيجية الحركة , تقوم على تحويل السودان إلى دولة إسلاموية , تحكم بقوانين الشريعة الإسلاموية , فقد قادت الحركة منذ نشأتها, معركة من أجل الدستور الإسلامي منذ 1955 (4) ورأت الحركة الاسلاموية في إعلان نميري القوانين الإسلاموية سبتمبر 1983 , نجاحا لإستراتيجيتها .
وينتقد الصادق المهدي هذه القوانين : " جاءت مخالفة لكل أقوال الدعاة الإسلاميين وآرائهم . بدأت بتطبيق الحدود, ولم تسبق ذلك أية إجراءات وقائية , كما تخلت عن وسائل الإثبات الشرعية المتشددة , لذلك أكثرت من إقامة الحدود . فقد قطعت أيدي أكثر من مائة شخص . في ظرف عام واحد - جاءت مهدرة لكل الضمانات ضد العثرات والتشوهات , فلم تستند إلى الإجتهاد والشورى وتأمين الحقوق لغير المسلمين - أنها لدى الفحص الدقيق, تمثل تلاعبا خطرا بالإسلام , في كل المجالات : تصورا وتقنينا وممارسة .(5) .
ومن مفارقات السياسة في السودان , عودة الترابي على الرغم من كل ذلك إلى الساحة السياسية . تحت إسم جديد " الجبهة الإسلامية القومية " التى دخل بها إنتخابات 1986 , محرزا بها لواحد وخمسين مقعدا في البرلمان . ما أهلها لأن تكون القوة الثالثة , بعد الأمة والإتحادي . ومن ثم إستيلائه بهذه الجبهة على السلطة في 1989 .ويعيد التاريخ نفسه مرة أخرى بعد المفاصلة,لينتقي الترابي مرة أخرى إسما جديدا , للحفاظ على مستقبل حزبه ,عند سقوط المؤتمر الوطني؟!
يظل الإسلامويون مهمومين بقضية إثبات تمايزهم عن الآيديولوجيات الأخرى , لذلك يأخذون أشكالا معينة , ويحاولون إعطاءها محتوى أصيلا , أى إسلاميا ( عروبة وإسلامية دارفور - مثلا) فعلى الرغم من الإنتخابات في السودان , طالب قادة الجبهة بضرورة البيعة للرئيس المنتخب . كما بايع الإسلامويون الرئيس السابق جعفر نميري , وكما بايعوا الجنرال البشير لاحقا , فور إنتخابات المؤتمر الوطني , وهو التنظيم السياسي الوحيد (6) . بطبيعتها الزئبقية هذه , نستطيع أن نفهم لماذا فعلت الجبهة الاسلاموية ما فعلت بالسودان , ودارفور على وجه الخصوص .
فبالنتيجة ما فعلته في دارفور , وجه آخر لذات العملة التى تداولتها في جنوب السودان . فبهذه الطبيعة الزئبقية ,كثفت الجبهة الإسلاموية من التجنيد والإستقطاب لأبناء إقليم دارفور . مستغلة في ذلك متناقضات البنى الاجتماعية , كبنى " تصوغ" وتتحكم في مجتمعات دارفور,على أساس القبلية التقليدية , التى إرتبط وجدانها الثقافي بالميثولوجيا والماورائيات , بحيث تحكم وجودها المادي الأنطولوجي,إلى حد كبير . وبتمكنها من الإستقطاب الكثيف , في أوساط المتعلمين ورموز العشائر إخترقت هذه المجتمعات بمشروعها ( الحضاري المزعوم ) ..
لقد كان العربي " الأصلي " " المهاجر " الذي يبشر بالإسلام في سلطنتي الفور والفونج , رجلا من العامة , مهنته الأساسية التجارة . وما كان يبشر به لم يكن نظرية معقدة , أو فلسفة إسلامية تشريعية عالية . بل بالأحرى ضربا فلكلوريا من الإسلام . و تكيف هذا الإسلام مع التقاليد الإجتماعية الثقافية التي كانت قائمة .
يلاحظ أن النمط المبكر للإسلام في السودان , الذي قدمته تلك السلطات , تميز بسمة تغييرية محدودة , وعلى العكس أثرت فيه الظروف التى إحتك بها , ونجد الدليل على ذلك في حقيقة أن ملوك الفور, قد إستوعبوا ممارسات, أحسن ما تعرف به هو أنها غير اسلامية . وعلاوة على ذلك ,تحمل حقيقة أن المجموعات الإثنية والقبلية, تحمل داخل حدود هاتين السلطنتين المبكرتين . قد كانت ضمنا مستقلة داخليا في شئونها السياسية , حتى الشريعة الإسلامية ,التي مورست في بلاطي الفونج والفور, لم تكن تتطابق والحدود السياسية لهاتين السلطنتين المبكرتين , بمعنى توفير إطار قانوني تفويضي موحد (7) .
وبينما تمكنت الجبهة الإسلاموية من إحداث إختراق كبير في دارفور , على حساب القوى التقليدية الطائفية (خاصة الامة) , مضت لإنجاز سيطرتها ,التي بدأتها منذ 1985. بسيطرة عناصرها الريعية وشبه الريعية , التي نفذت بتجربة المشاركة في إدارة جهاز الدولة ,وخبرت إمكاناته الهائلة ودخلت في شراكات مع رأس المال الإقليمي ( العربي- الإسلامي ) . أستطاعت هذه العناصر ,التي إستفادت من ضعف الحكومة البرلمانية (85 - 1989 ) ,في قطع الطريق أمام أى محاولة , لتنظيم مؤتمر دستوري , لحل أزمة البلاد , وأستولت على السلطة - بعد ذلك –
إستثمرت النخبة الإسلاموية الصاعدة للحكم , فشل الأحزاب التقليدية ,في إدارة دفة الحكم بكفاءة ومسئولية وحسم , كما قامت بتحييد وتوظيف لا مبالاة قواعد الأحزاب تجاه قياداتها , فطرحت نفسها في صورة شعبوية , تطهيرية . كمدافعة عن هوية الوطن المهددة , وتوجهت بخطابها الشعبوي للمركز والهامش في آن (8) بصورة خاصة لحشد التأييد , وبناء قاعدة النظام الاسلاموي (9) فقد كان أعضاء الجبهة الإسلاموية يرون , جوهر الدعوة وقضية الإسلام , أكبر من الوسائط التنظيمية ووراء دائرتها , بل أولى من الهيئة الكلية لجماعتهم , ولأن الحياة لا تنفذ صور إبتلاءاتها وظروفها , يقول الترابي : " فإذا إنطبقت الجماعة في نظامها مطلقا , أوشكت أن تجمد, وتقعد به عن الإستجابة لمقتضيات الظروف المتجددة , ومن ثم لابد من قدر من المرونة والحرية , وتوازن االنظام . تتيح هامشا من المبادرات والطلاقة , لتتبلور مقترحات جديدة , في شكل التنظيم "(10)
كانت نتيجة المرونة , التوجه نحو التوسع والتمكن من إختراق دارفور , إعتمادا على مرونة (إنتهازية ) تنظيم الحركة الاسلاموية , والإستعداد الفطري لأبناء الإقليم , على خلفية مسعى هذا التنظيم , لتحويل نفسه لتنظيم" واسع مستوعب ومتطور " . وهكذا إستخدمت الحركة الإسلاموية , خطابها الإسلاموي في الإستقطاب والتعبئة .
هذا الحديث عن الخطاب الإسلاموي , لا يتطابق مع النص القرآني - على خلفية المرونة - أو "الإسلام " الدين في أصوله المتفق عليها . بل هو قراءة /تأويل للنص القرآني أو الدين الإسلامي , تحكمه الظروف التاريخية وتحينه . وهذا يعني أنه يقيم صلة ما بالنص القرآني , والسنة مرجعية في الإقناع . ولكن الخطاب الإسلاموي في السودان , المعاصر . محكوم بدلالات هذه التسمية . فهو إسلاموي وليس إسلاميا . بمعنى أنه قراءة لجماعة سياسية ,تسمي نفسها الجبهة الإسلامية (11) أو الحركة الإسلامية أو المؤتمر سواء كان وطنيا أو شعبيا, إلى آخره من مسميات تطلقها على نفسها بين وقت وآخر. إذ تستولى الآيديولوجيا على الدين , لدى الإسلامويين . وتوظفه كاملا وجيدا , كما تريد. وبآليات متعددة , تسخر لغته ومفاهيمه وأفكاره .
وهنا نقف لنفرق بين الحركة الفكرية والحركة الآيديولوجية , فالأولى تنتج الأفكار , من خلال جهد المفكرين " أما الآيديولوجيا " فعلى العكس من ذلك ,تحاول تثبيت أفكارها , لتعبئة الجماهير بفاعلية. صفوة القول أن الحركة الإسلاموية في السودان , نجحت في كل ما خططت له , خاصة وراثة مواقع القوى الطائفية - نسبيا , وتمكنت من تعبئة الجماهير .
ففي 19/ 4/ 1989 , أرادت الجبهة الإسلاموية , أن تصعد مواجهاتها مع الحكومة الديموقراطية , الثالثة , فيما يتعلق بالحسم العسكري لمشكلة الجنوب , فأستحدثت سابقة خطيرة , حبست الأنفاس هلعا وتحسبا وإستنكارا , فقد قام مؤيدوها, من كوادرها المنظمة .بتسيير مظاهرة في حي الثورة بأم درمان , إتجهت فورا إلى كنيسة للمسيحيين , وأضرموا النيران في داخلها وأنحائها وأحرقوها .. وفي رد فعل سريع وغاضب , تجمع المسيحيون ,وأتجهوا إلى أحد المساجد الذي إبتنته وأدارته منظمة الدعوة الإسلامية .. وأحرقوه (12) وعندما سألت صحيفة " الشرق الاوسط " في وقت لاحق (9/5/1989) علي عثمان محمد طه , عن إتهام السودانيين للجبهة , بإشعالها لحرب دينية , قال تلميذ الشيخ , أن الجبهة دعت لتلك المظاهرات , إلا أن مظاهراتها كانت منضبطة . وما علمنا إلا يومها أن الكنائس وبيوت العبادة المسيحية , تنفجر وتحترق تلقائيا , كطلمبات البنزين أو مستودعات الغاز الطبيعي , جراء تفاعلات الضغط والحرارة . هكذا بلا فاعل من بني البشر؟! (13) .
تحاول الجبهة الإسلاموية القوموية, كتعبير صارخ وعنيف عن الإسلام السياسي المعاصر , أن تكتب أو تصوغ آيديولوجيا للإسلام في السودان . ولكن تدعي أنها تعيد صياغة تاريخ الإسلام في السودان , والفرق كبير بين الآيديولوجيا والتاريخ , فهي "أي الجبهة " تقوم بعملية حذف وتحوير , وإعاد ة تأويل لكثير من الحقائق التاريخية , كي تصل إلى أغراضها , فهي تكتب التاريخ حسب رؤية مسبقة تؤمن بها , وتتمنى أن يكون بديلا عن الواقع , فهي تدعي أن ممارستها السياسية, منذ 1989 هي تطبيق للإسلام وشرع الله , ونهج الرسول وأصحابه , وفي نفس الوقت ,ترى أن هذا الوضع , هو إمتداد لتاريخ الدولة الإسلامية السودانية ( مثل الفور - الفونج أو المهدية) (25) ومن هنا جاء مشروعها الحضاري مفتقرا للعقلانية , ومعبرا عن واقع افتراضي لا وجود له ,إلا في ذهن الترابي شخصيا وتلامذته (14)
ولذلك إصطدم هذا المشروع, الذي يعج بالمتناقضات , بالواقع العملى . وعبر سقوطه لدي تطبيقاته العملية , عن حالة كارثية لكل السودان . ووضع مأساوى في دارفور بصفة خاصة , فقد هيأت الأخطاء المتراكمة , للنظم المتعاقبة , تجاه دارفور . لهذا الوضع الكارثي , الذي يتهدد الإنسان ويمزق أرضه وعرضه.
وما تحمله الشبكة الدولية للمعلومات. من وقائع موثقة عن دارفور , إثر زيارات ميدانية , للمنظمات الدولية لهو مخيف جدا . ففي 18/6/2004, وبعد أن بلغ التطهير العرقي , الذي تمارسه مليشيات الحكومة وقواتها جنبا إلى جنب, مع الجنجويد .هددت دولة تشاد بالتخلي عن لعب دور الوسيط , بين الحكومة السودانية و " العصابات المسلحة " , كما أفادت آيرين-موقع الأمم المتحدة".إذ أن هذا الصراع تخطى الحدود السودانية , وأخذ يلقي بظلاله على الجوار - خاصة الحدود الشرقية لتشاد - وأكد احمد علامي , مستشار الرئيس ادريس ديبي الشخصي , بعد لعبه دور الوسيط في المشكل السوداني , قائلا :أن الجنجويد يقاتلون جنبا إلى جنب مع القوات الحكومية السودانية . وقد حاولا تجنيد القبائل التشادية العربية في قواتهم . مما تسفر عنه حرب إثنية بين المجموعات غير العربية, والمجموعات العربية الإقليمية الأخرى , وإذا لم يتم حسم الجنجويد , فإن نشاطها ,سيكون بمثابة إحياء لحركة مشابهة في تشاد, توقفت عن محاربة الحكومة التشادية , فهذه الحركة تشابه الجنجويد وتشترك معها في الفوضى .
وأكد علامي أن السياسات , التي أنتهجتها حكومة السودان , تسببت في هذا الوضع .. وقال الدبلوماسيون أن إستمرار الصراع على المدى الطويل . سيسفر عن كارثة لا يمكن لتشاد أن تنفصل عنها , سيما وأن التركيبة الإثنية , في دارفور هي نفسها, في المناطق الحدودية التشادية , وقدرت الوكالة الدولية للاجئين وقتها أن 200,000 لاجيء من دارفور عبروا الحدود نحو تشاد , بعد أن قامت القوات الحكومية بمساعدة الجنجويد بمهاجمة قراهم وتدميرها , كما قدرت أن أكثر من مليون شخص, قد أجبروا على النزوح عن ديارهم خلال 16 شهرا من الصراع المسلح .
وحسب "آيرين" أن كثيرا من التشاديين العرب المناوئين , والمعارضين للحكومة التشادية ,على إتصال بالجنجويد , وقد سافروا إلى السودان ,بشكل متكرر , وأن أحد قادتهم ,يعمل قائدا لإحدى فرق الجنجويد . كما أن – من الجانب الآخر- عدد من المناوئين الزغاوة , من بينهم أسرة ديبي نفسه ,يشعرون أن تشاد يجب أن تفعل شيئا , لدعم أنسبائهم في الطرف الآخر من الحدود السودانية , والذين يحملون السلاح ضد الحكومة السودانية (15)
كشف – حينها - هذه المعلومات, عن خطورة الوضع الإنساني في دارفور ,على الجانب الآخر من حدود السودان مع تشاد , كما أشر إلى إندلاع وشيك لحرب اقليمية ,تضاعف من حجم المأساة الإنسانية في هذا الجزء من العالم . وبينما يحدث كل ذلك ظلت حكومة الخرطوم تساهم في المزيد من الكوارث الإنسانية, دون أن يطرف لها جفن , من بشاعة هذا الصرا ع الدموي , الذي تخوضه صفا إلى صف الجنجويد . كما أنها وقفت تتفرج على قرى المساليت وهي تتعرض للحرق , ويتعرض سكانها إلى الإبادة الجماعية منذ 1995 .
لقد مثل حل الإدارة الأهلية في دارفور على عهد نميري (1971) علامة فارقة في تاريخ إستقرار دارفور, منذ ضمها الإنجليز إلى جغرافيا السودان , فقد ترتب علي هذا القرار العشوائي , للسيد نميري , وضع الأساس ,لتمزيق المجتمع والأرض . لعدم كفاءة الضباط الإداريين , ولكونهم غرباء عن هذا المجتمع . بعيدين عن روحه . ما راكم المشكلات والأزمات , وجعل القضايا المصيرية , في مثل هذه المجتمعات المشحونة بالتوتر معلقة . لتصبح الجرائم مختلفة ,عما أعتادت عليه هذه المجتمعات ( نقلة نوعية مكررة في الجريمة) تضيق بها أضابير المحاكم , من تراكمها وتعقيداتها , إلى أن تفجر الوضع تماما , بتراكم مزيد من الأخطاء , بما يشبه التلاعب بحياة الناس . والإستهانة بكرامتهم الإنسانية وثقافتهم وأرضهم .
فالسياسات المنظمة للجبهة الإسلامية . المتمظهرة في المشروع الحضاري ,سيء السمعة . تعارضت تماما مع المبدأ العام . الذي على سبيل مجموعة من الخيارات , متاحة للتعاطي مع الواقعة الأساسية للتعددية . مثل أنواع مختلفة من الفدرالية , أو الحكومات التي تحمي الأقليات , وقد ينتقي نظام دستوري معين , أيا من الخيارات ,التي تعتبر الأفضل لطبيعة وظروف التعددية, للبلد المعني . وسوف يكون هذا شرعيا ومتمشيا مع الدستورية , كمعيار للديموقراطية ,للدرجة التي يصبح فيها الخيار المنتقى ,مواتيا لتحقيق الوظيفة السياسية للدستور .
ومن الضروري هنا أن تتاح فرص متساوية لكافة المواطنين , الذين يرغبون في نقض أو تغيير أي جانب من نظرية ممارسة الخيارالمنتقى (16) تناقضت الجبهة الاسلامية ,إذن مع هذا المبدأ العام لعدم شرعيتها .كمجموعة سياسية " جاءت بإنقلاب عسكري ,على نظام ديموقراطي منتخب, أيا كانت عيوبه أو رأينا فيه " . كما أنها , تتناقض في منطلقاتها كتنظيم , مع مفهوم الحزب السياسي,إذ " قامت على أساس ديني - لاحقا تحولت إلي العرقي أيضا " . في واقع متعدد ومتباين مثل السودان .
ولذلك كان من الطبيعي جدا , أن تؤول الأمور في السودان ودارفور بصفة خاصة , إلى ما آلت إليه . خاصة أن دارفور مهيأة لهذا الوضع الكارثي , الذي نشهده الآن , منذ أن عرف أبنائها الهجرة إلى ليبيا , وتمكنوا من شراء السلاح الآلي , من مدخرات إغترابهم ,حتى أصبحوا حركات مسلحة ضمن التوازنات العامة, في المشهد السياسي لسودان المليشيات والحركات, هذا فضلا عن الصراعات المسلحة المستمرة, بين القبائل ,التي لا تهدأ إلا لتنطلق مرة أخرى . مضافا إليها الجريمة , التي ترتكب بواسطة السلاح . والبعد الخارجي في الصراع " ليبيا - تشاد " . وكذلك دور السودان في الصراعات المتعلقة بالجوار , في فترات مختلفة . " تشاد - ليبيا - أفريقيا الوسطى " . فإنتشار السلاح في الإقليم, زاد من الشحن والتوتر بين المجموعات المختلفة , ما أسهم في تغيير طبيعة الصراع لاحقا .فتحولت الصراعات من نهب مسلح " كما كانت الحكومة تطلق عليه " إلى صراع قبلي ,أشعلت نيرانه وأذكته الحكومة ذاتها .
هكذا وجدت الجبهة الإسلاموية المسرح معدا . لتلعب دورها فيه . ففي أبريل 1989م وفيما كانت الحكومة مشغوله بسقوط "الجكو"(17) والمعارك مع الحركة الشعبيه, التي إنتقل مسرحها إلي جنوب كردفان ,عند منطقة "أم سرديف" التي تبعد 110 كيلومترات من كادوقلي, كانت تشاد تلتهب,ففي 1989/1/4م أحبطت حكومة حسين حبري إنقلابا عسكريا,عبر الإنقلابيون الحدود إلي السودان, فأرسلت الحكومة الشرعية ,وفدا إلي الخرطوم ,لمقابلة رئيس الوزراء الصادق المهدي,بغرض تسليمه رسالة خطية من الرئيس حسين حبري. وصل الوفد التشادي إلي الخرطوم وظل نزيلا بالفندق الذي حل به ,دون أن يتمكن من مقابلة السيد الصادق المهدي؟! ومن إنجمينا كانت خطوط الهاتف مشغولة ,تطالب الوفد ببذل مزيد من الجهد, لإتمام تلك المقابله!..
كانت تشاد تريد من السودان أن يسلمها قادة الإنقلاب لهذا السبب. فضلا عن الضغوطات الليبية الشديدة, والتي بلغت حد لي الزراع فأن الحكومة السودانية قررت تجاهل الوفد الزائر(18)كما أشارت.- UN IRIN ويكشف هذا, مقروءا مع ما أوردته آيرين مدي تعقيد العلاقات السودانية/التشاديه...
فالبلدان ظلا غير مستقرين يعانيان من الحروبات الداخلية,والصراعات المسلحة, والإنقلابات العسكرية,إذا أضفنا إلى ذلك وجود قبائل مشتركة, هي طرف في الصراع الذي يدور اليوم في دارفور.
إذن يمكننا إستقراء,أن الوضع في دارفور ,ما لم يتم تداركه ,فهو ليس مقبلا علي كارثة إنسانية جديدة , تتخطي حدود دارفور إلى داخل تشاد فحسب ,بل وربما في عصر الثورات الراهنة ,تشمل أفريقيا الوسطي ,مثلما أطاحت بنظام قذافي في ليبيا.وليس هذا فحسب بل قد تفضي إلى إنفصال دارفور خصوصا بعد أن تأكد إنفصال الجنوب.
وعلي الرغم من المعرفة التامة لكل الحكومات السودانية,وإدراكها لتعقيدات العلاقة مع تشاد,المتاخمه لإقليم دارفور المأزوم,بدلا من أن تععمل علي إستقرار الأمن ,فعلت العكس,فالمعارضة الشمالية في عهد نميري,سربت السلاح إلى دارفور(سلاح ليبي), وتحركت بجزء منه لإسقاط نظام نميري في الخرطوم ,وأبقت الجزء الآخر منه في دارفور(19) ليستخدم لاحقا في الصراع المسلح ,في هذا الإقليم المنهك تنمويا..
تضافر هذه العوامل العديدة ,وتراكمها عبر فترات مختلفه ,أسهم في إرتكاب مزيد من الأخطاء,ومراكمتها لتصبح اللغة المتداولة, في الصراعات المحلية بدارفور, هي لغة السلاح, وتصبح بذلك مهيأة لأي حرب كبري طاحنة سواء كان بينها وبين قبائلها أو بينها وبين المركز(20) في حالة توحيد تمكن الحركات المسلحة من توحيد كافة المجموعات الإثنية وفقا لقانون المساكنة والمصالح المشتركة وتعبئتهم ضد المركز .
خصوصا وأن الجبهة الاسلامية ظلت تلعب على وتر القبائل العربية وتحشيدها ضد غير العرب بما ظل (يصب الزيت في النار) خصوصا ,بتأسيسها في جهاز الأمن العام لما يسمي بقسم (أمن القبائل) ,الذي عمل علي تفتيت القبائل غير العربية,كما فعل الصادق المهدي من قبل, ومنحها أراضي القبائل غير العربية, وفقا لما أشارت به الدراسات الخاصة بقسم أمن القبائل.
ويبدو أن الاسلامويين كانوا يخططون ,منذ وقت مبكر. لكي يكون السودان حقلا لتجاربهم السياسية ,ذات المسوح الديني. يقول الترابي:- من حسن حظنا في السودان, أننا في بلد ضعيف التأريخ ,ضعيف الثقافة الإسلامية الموروثة, وقد تبدو تلك لأول وهلة نغمة ,ولعلها نعمة. إذ لا تقوم مقاومة شرسة لتقدم الإسلام المتجدد,ذلك في مرحلة الإنتقال(21) ويبدو أن مرحلة الإنتقال التي يقول بها الترابي , هي مرحلة " أزمة النظام الإجتماعي ", التي قال بها الراديكاليون الماركسيون من قبل , في طبعة مختلفة .
نواصل
(1) السابق . ص : 289 .
(2) السابق . ص : 299 .
(3) السابق . ص : 301 .
( 4) السابق . ص : 202 .
( 5) السابق . ص : 203.
- بالإضافة إلى عبد الله علي إبراهيم . الإرهاق الخلاق . ص : 34 . إذ يقول : " تحتاج الجبهة الإسلامية القومية بدورها أن تعترف للآخرين , بعد أن إعترفت لنفسها في مواقع مختلفة , أن قوانين سبتمبر 1983 هي مجرد إقتراح قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية , وليست الكلمة النهائية , لما يمكن أن تكون عليه صورة الشريعة الإسلامية في الدولة السودانية . ولذا صح إعتبار معارضي تلك القوانين من بين المسلمين وغير المسلمين في السودان , أناسا ذوي آراء مختلفة , ليست بالضرورة ضالة أو ملحدة .
(6) السابق . ص : 301 .
(7) شريف حرير . مرجع سابق . ص : 29 - 19 .
- التعد الإثني والديموقراطية في السودان . مرجع سابق ص : 25 : يصنف دكتور عطا البطحاني , المجموعات العرقية في السودان بتقسيمها إلى ثلاثة مجموعات إثنية مجموعة:
(أ) تمثل جماعات الوسط النيلي . الممتدة من الجزيرة حتى الشمالية . والممثل التقليدي للثقافة العربيةالإسلامية المهيمنة على باقي المجموعات الإثنية . والمحتكرة لرموز وفعاليات كتلة القوى المسيطرة منذ الاستقلال .
(ب) تمثل الجماعات الإثنية من غرب وشرق السودان .
(ج) فتمثل الجماعات الإثنية في الجنوب .. نلاحظ أن الحدود الفاصلة بين هذه المجموعات , هي حدود غير واضحة , وأن هناك تداخلا واضحا بين هذه المجموعات: مثلا تشترك (أ) و(ب) في عاملي اللغة والدين وتلتقي المجموعة (ب) مع المجموعة (ج) في التهميش السياسي والتخلف الإقتصادي . كما تعاني المجموعتان من هيمنة المركز في (أ) .
(8) السابق . ص : 27 .
(9) دكتور حيدر ابراهيم علي . أزمة الإسلام السياسي " الجبهة الإسلامية القومية - نموزجا " الطبعة الاولى القاهرة 1991 ص : 134 .
(11) السابق . ص : 144 .
(12) عبد الرحمن الأمين . ساعة الصفر " مذبحة ديموقراطية السودان الثالثة " . أجندة واشنطن . ص : 187 .
(13) السابق . ص : 88 .
(14) حيدر ابراهيم علي . السابق . ص : 38 .
(15) راجع : نشرة مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان " سواسية " العدد (53- 54) حول تجديد الخطاب الديني . ديسمبر 2003.
(16) irinnews.orgLreport.asp?report id=41756&select region =west_ africa. (28)
الديموقراطية في السودان :البعد التاريخي والوضع الراهن وافاق المستقبل . " ابحاث ندوة تقييم التجارب الديموقراطية في السودان " القاهرة 6 - 4 يوليو 1993 . تحرير حيدر ابراهيم علي . مركز الدراسات السودانية . القاهرة 1993 ص : 238 .
(17) عبد الرحمن الأمين . مرجع سابق . ص : 85 .
(18) الديموقراطية وحقوق الإنسان في السودان . إلتزامات القوى السياسية والنقابية والعسكرية السودانية . تحرير : دكتور محجوب التيجاني . القاهرة 1997 . المنظمة السودانية لحقوق الإنسان . ص : 135 .
(19) السابق . ص : 57 .
(20) دكتور حيدر إبراهيم علي . أزمة الإسلام السياسي . مرجع سابق . ص : 192.
نواصل
Ahmed M. Dhahia [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.