لنبدأ من الآخر.. آخر المشاهد والمواقف في مصر الجديدة.. تزامنت عودتي من القاهرة إلى الخرطوم -بترتيب المشيئة والقدر- مع إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية صباح ذات اليوم -الأحد الماضي- حيث فاز د.محمد مرسي على منافسه الفريق أحمد شفيق، فحزمت أمتعتي مساءً واتجهت إلى «مطار القاهرة الجديد» الذي هو أبرز الإنجازات العملية والإدارية لشفيق الذي أخطأه النجاح في أول انتخابات ديمقراطية حرة في مصر ما بعد 25 يناير. هذا التزامن فرض عليَّ الانتظار حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر. صحيح أن د.محمد مرسي قد فاز بالانتخابات، وإن كان بفارق محدود بينه وبين الخاسر الفريق شفيق، لكن إجراءات سابقة وتحركات لاحقة لإعلان النتيجة أثارت غباراً كثيفاً عبأ الأجواء السياسية المصرية وأنتج استقطاباً حاداً جرى التعبير عنه منذ فجر الخميس الأسبق عندما توجه الدكتور مرسي إلى ميدان التحرير في الرابعة صباحاً وأعلن -مسبقاً- أنه الفائز بالانتخابات حتى قبل أن يكتمل الفرز في بعض دوائر القاهرة، واستمرت جماهير الإخوان والتيارات الإسلامية وبعض حلفائهم وسط ائتلافات شباب الثورة معتصمة بالميدان رفضاً للإجراءات والقرارات الدستورية الاستباقية التي اتخذها المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبيل إعلان نتيجة الانتخابات. 24 ساعة من ظهر الجمعة وحتى ظهر السبت، مثلت يوماً مهماً واستثنائياً في حياة الرئيس المنتخب مرسي وربما في تاريخ الرئاسة المصرية والمرحلة الدقيقة التي تعبرها مصر الجديدة. فحركة الرئيس المنتخب مرسي خلال هذه الأربعة وعشرين ساعة انطوت على معانٍ ورمزيات لابد من الوقوف عندها وقراءتها بتمعن، لأنها تؤشر بشكل أو آخر إلى مآلات الصراع الدائر -علناً وخفية- بين مراكز صناعة القرار.. بين القوى التي يمثلها محمد مرسي وبين مؤسسة الدولة المصرية الموروثة، وهو صراع اتخذ أشكالاً متعددة، بعضها مكشوف عبر «المليونيات» وأرضها «ميدان التحرير» وبين التفاوض والمساومات والمناورات وراء الأبواب المغلقة. أربع محطات انطوت كل منها على رمزية مهمة رتب لها د. محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي حزب الحرية والعدالة من ظهر الجمعة إلى ظهر السبت. أولاها هي توجه الرئيس المنتخب مرسي لأداء الصلاة في الجامع الأزهر الشريف، وتكمن رمزيتها في «التشرف» بأداء أول صلاة جمعة بعد انتخابه في الأزهر، الذي يمثل لدى المصريين وجمهور المسلمين السنة في كل مكان «الوسطية» نفياً لشبهات التطرف والغلو، التي قاومها الأزهر في كل العهود. وكذلك لارتباط الأزهر بمعاني الوطنية المصرية منذ الغزو الفرنسي لمصر الذي داهم الأزهر وتصدى له الأزهريون وقادوا الشعب في مواجهته. وقد كانت جمعة الأزهر بحضور الرئيس المنتخب درساً مهماً في معاني الوطنية وتراث العدالة الإسلامية، من خلال الخطبة التي ألقاها وزير الأوقاف الشيخ محمد القوصي، الذي كرس الخطبة الأولى لسيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعدله ورحمته وحزمه الذي فصَّل فيه القوصي مخاطباً الرئيس المنتخب مباشرة، على غير العادة في خطب الجمعة، وتجاوب مرسي مع كلمات الشيخ وذرف دموعاً حرى خصوصاً في الخطبة الثانية التي خصصها لتاريخ الأزهر ووقفاته الوطنية في مواجهة الغزو الاستعماري. المحطة الرمزية الثانية تمثلت في تحرك د.مرسي من الأزهر إلى ميدان التحرير حيث يتجمع أنصاره وأنصار جماعته وحزبه في اعتصام يحتج على القرارات الدستورية التي أصدرها المجلس العسكري الأعلى والمحكمة الدستورية العليا قبيل إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية. فهم يطالبون بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل الذي يرون فيه انتقاصاً لصلاحيات الرئيس المنتخب، وبإلغاء حكم المحكمة الدستورية القاضي بحل مجلس الشعب «للا دستورية» قانون انتخابات المجلس بسبب العوار الذي أصاب الثلث المخصص للترشيح الفردي بإعطاء أعضاء الأحزاب حق الترشح عليه، ويطالبون كذلك بإلغاء قرار وزير العدل بمنح الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية حق الضبطية القانونية على المدنيين، وهي المطالبة الوحيدة التي استجاب لها حتى الآن المجلس العسكري بإلغاء قرار وزير العدل. مرسي ذهب إلى ميدان التحرير وخاطب المعتصمين هناك وأكد على مناصرته لمطالبهم وبعدم التنازل عن أي من صلاحيات الرئيس استجابة للإعلان الدستوري المكمل، بالرغم من أن صلاحيات الرئيس حتى في الإعلان الدستوري الأصلي كانت منقوصة، كما يرى فقهاء الدستور والقانون. وأدى مرسي قسماً دستورياً رمزياً في ميدان التحرير وألقى خطبة حماسية تعهد خلالها بالحفاظ على مصالح الشعب وأهداف الثورة والإخلاص لدماء الشهداء، شهداء الثورة وكل شهداء القضايا الوطنية منذ مطلع القرن الماضي. وبذلك أرضى مرسي مؤيديه وأنصاره، مؤكداً على شرعية ميدان التحرير وأن الشعب هو مصدر السلطات في مواجهة الشرعيات الأخرى، شرعية المجلس العسكري ومؤسسات الدولة وشرعية القضاء، لكن دون أن ينسى ضرورة المواءمة، في مجرى هذا الصراع الرهيب، بين تلك الشرعيات وما ترتبه من التزامات في محاولة كما قال «لتخطي كل العقبات»، كما أكد على أنه رئيس لكل المصريين بما في ذلك أهل الفن والإبداع والإعلام والعاملين في مجال السياحة، رداً على ما تردد من إهماله في خطاباته السابقة لهذه القطاعات التي بدأ أهلها يتخوفون مما يمكن أن ينطوي عليه هذا الإهمال الذي رأوه متعمداً، بعد أن لاحظوا ذكر مرسي في تلك الخطابات لسائقي «الميكروباص» والتاكسي وحتى سائقي «التكتوك»-أي الركشات. المحطة الثالثة، ذات الرمزية الخاصة، هي قرار مرسي حلف اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا في أول سابقة من نوعها في تاريخ مصر، وتكمن رمزيتها في المواءمة بين الحلف أمام جمهور ميدان التحرير إرضاءً لذلك الجمهور والحلف أمام المحكمة الدستورية، استجابة لنص قرار الإعلان الدستوري المكمل الذي يرفضه ويرفضه جمهوره المعتصم في الميدان، والذي ينتقص من صلاحياته، وهي ذات المحكمة التي قضت بحل مجلس الشعب، الذي لا يزال مرسي يتمسك -علناً على الأقل- بحقه في الاستمرار لأنه مجلس منتخب من الشعب، وهي ذات المحكمة التي أعادت شفيق إلى سباق الرئاسة بعد أن قررت لجنة الانتخابات ابتداء عزله. فأداء مرسي لليمين أمام المحكمة الدستورية ينم عن قدرته -كرجل دولة- على المواءمة وممارسة الدهاء الضروري الذي يتخطى العواطف الشعبية والانحناء للعواصف السياسية، تمهيداً لجولات جديدة في صراع طويل منتظر. وأكد مرسي في كلمته عقب أداء اليمين على احترامه وتوقيره للمحكمة الدستورية وللمؤسسة القضائية وللدولة المدنية وأحكام الدستور والقانون. أما المحطة الرابعة التي توقف عندها محمد مرسي، والمناقضة في الظاهر لحلف اليمين أمام المحكمة الدستورية هي دعوته لأعضاء مجلس الشعب لحضور لقائه مع الإطارات النقابية والحزبية التي خاطبها بجامعة القاهرة بعد ظهر أمس، وهي إشارة أخرى لاستمرار الصراع، الذي سنحاول تقديم قراءة متعمقة لعوامله ومظاهره في الحلقة القادمة غداً إن شاء الله.. إنه الصراع بين إرادة التغيير وكوابح التقدم.