أعادنا الرئيس الدكتور محمد مرسي إلى مصر مرة أخرى، بعد قليل انقطاع عن متابعة الشأن المصري، الذي- يهم بحكم الجغرافيا والتاريخ والمستقبل- كل سوداني. ü يوم أمس الأول (الأحد) فاجأ الرئيس مرسي المصريين بقرار خطير ومثير على غير ما توقُع.. قرار يعيد مجلس الشعب إلى العمل والانعقاد، بعد أن حلته المحكمة الدستورية العليا استناداً إلى العوار الدستوري الذي لحق بقانون انتخابه نتيجة لتجاوز الأحزاب ومرشحيها الذين منحهم القانون- بعد ضغوط من الأحزاب نفسها- ثلثي مقاعد المجلس مع تخصيص الثلث الثالث للمرشحين الأفراد غير المنتمين للأحزاب، مما ترتب عليه إحراز التيار الإسلامي لأغلبية كبيرة في عضوية المجلس جراء هذه (المخالفة) من وجهة نظر المحكمة. ü قرار الرئيس مرسي فجر- مجدداً- الساحة السياسية المصرية المضطربة أصلاً، فانقسمت النخب السياسية والقانونية بين مؤيد للقرار، اتخذوا من «ميدان التحرير» ساحة الثورة العتيدة مركزاً للحشد والدفاع عن القرار، وبين معارض للقرار رفع صوته بالتنديد الذي وصل حد وصف الرئيس ب«السطو» والحنث باليمين الدستورية التي أداها في ثلاثة مواقع- ميدان التحرير وجامعة القاهرة- وأمام المحكمة الدستورية ذاتها- وتعهد فيها باحترام القانون والدستور ورعاية المصالح العليا للبلاد، وطالبوا بمحاكمته جراء ما رأوا أنه مخالفة لحكم المحكمة الدستورية النهائي والواجب النفاذ- حتى بدون آلية للتنفيذ- خصوصاً وقد حلف الرئيس اليمين أمام المحكمة الدستورية تنفيذاً لنصوص الإعلان الدستوري المكمل الذي يطالب أنصاره في ميدان التحرير باسقاطه. ü الجدل الدستوري والقانوني الذي انتظم مصر في أعقاب القرار، يضع البلاد مرة أخرى على محك صراعات مجهولة الأبعاد، فانقسم الشعب- بعد النخب- بين مؤيد ومعارض، لكن أخطر من ذلك أنه ينبيء عن صراع بين السلطات الحاكمة، المحكمة الدستورية والقضاء، المجلس العسكري صاحب الإعلان المكمل والذي قام رئيسه المشير طنطاوي بتنفيذ حكم المحكمة الدستورية في جهة، والرئيس ومؤسسته ومجلس الشعب «المحلول» في الجهة المقابلة، فتحول الأمر إلى صراع إرادات، من قبيل المثل المصري الشهير عن حالة المتخانقين «سيب وأنا أسيب» ولا نعرف حتى هذه اللحظة من سيطلق خناق الآخر أولاً! ü القانونيون الدستوريون المحسوبون على الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية رأوا في قرار حل مجلس الشعب من جانب المحكمة الدستورية تواطؤاً مدبراً بين المجلس العسكري والمحكمة الدستورية بالنظر لتوقيت القرار قبل أيام قليلة من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، حتى يأتي مرسي إلى الحكم ولا يجد مجلساً نيابياً يستند إليه ويشكل حكومة تمثل بشكل أو آخر الأغلبية التي تؤيده، فتتعزز صلاحياته التي حد منها «الإعلان الدستوري المكمل»، الذي وضع سلطة التشريع والموازنة بعد حل البرلمان بيد المجلس العسكري إلى حين كتابة الدستور الدائم وإجازته. ü أكثر من ذلك يرى القانونيون الإخوان أن هناك ثأراً بين المحكمة الدستورية والهيئات القضائية ممثلة بنادي القضاة ورئيسه المستشار أحمد الزند، بعد المعارك والملاسنات المتعددة بين النواب الإسلاميين والقضاة من جهة، ومن عزم مجلس الشعب على إعادة النظر في التشريعات الخاصة بالمحكمة الدستورية وتنظيمها، كما أشار لذلك النائب ممدوح اسماعيل المحامي بمحكمة النقض في لقاء له الليلة الماضية مع التلفزيون المصري، والذي عبر فيه عن شكوكهم في أهلية المحكمة الدستورية، التي قال إن النظام السابق تخطى نظام الأقدمية في رئاستها، وأصبح حسني مبارك يأتي بمن يرى أنه يخدم مشروعه في التوريث. ü أما الرافضون لقرار مرسي، فيرون أنه يحول «مصر إلى غابة» في غياب سلطة وسيادة حكم القانون، بحيث يفعل كل صاحب موقع في الدولة أو خارجها ما بدا أنه حق له دون اعتبار لمؤسسات الدولة ونظمها المرعية والمتبعة في فض المنازعات.. ومضى الأمر أبعد من ذلك، حيث اجتمع نادي القضاة بكل الهيئات العدلية التابعة له وأعطى الرئيس مرسي مهلة (36) ساعة للتراجع عن القرار، وإلا سيلجأ- كما قال وكيل النادي المستشار عبد العظيم العشري أمس في مداخلة تلفزيونية- إلى اتخاذ خطوات تحفظ للمحكمة الدستورية والهيئات العدلية إحترامها وهيبتها، ورأى أن خطوة مرسي هي بمثابة تعدٍ وإهانة للقضاء، ووجد القضاة تضامناً فورياً من نقابة المحامين ورئيسها سامح عاشور. ü أما المجلس العسكري الأعلى، فقد أصدر بياناً «هادئاً»، بعد إجتماع مطول الليلة قبل الماضية وأمس (الاثنين)، ابتعد عن لغة المواجهة المكشوفة، ولكنه أشار إلى قراره السابق رقم (350) الذي لم يكن أكثر من تنفيذ واجب لحكم المحكمة الدستورية، خصوصاً بعد أن علل بيان صادر عن مؤسسة الرئاسة بأن قرار مرسي بإعادة مجلس الشعب هو تنفيذ لحكم المحكمة الدستورية وليس رفضاً له، فيما يشبه التبرير، وأن مجلس الشعب سينعقد بدعوة الرئيس لتنفيذ حكم المحكمة، وأنه- كما قال الرئيس- سيواصل أعماله لفترة محدودة إلى حين إجازة الدستور والدعوة خلال 60 يوماً من ذلك التاريخ لانتخابات نيابية جديدة، لكن أهم ما ورد في بيان المجلس العسكري هو التأكيد على «الإعلان الدستوري المكمل» الصادر في 18 يونيو الماضي وانحيازه للدستور، مما يعني أن المجلس لن يفرط في سلطة التشريع ولن يتركها للمجلس (المحلول) بحكم المحكمة الدستورية. ü هذه- باختصار- صورة المشهد المحتقن الآن في شمال الوادي، مشهد يدعو للفزع والقلق، خصوصاً مع الزيارة الغريبة التي قام بها وفد أمريكي رفيع المستوى بقيادة وليم بيرنز مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية واجتماعه بالرئيس مرسي في ذات يوم صدور القرار، والتصريحات السابقة المنسوبة للسفيرة الأمريكية لدى القاهرة «آن باترسون» عقب قليل من انتخاب الرئيس مرسي، والتي قالت فيها إن على الرئيس مرسي إعادة مجلس الشعب إلى العمل، الذي اعتبره الصحافي والنائب المستقيل مصطفى بكري مخططاً أمريكياً يستهدف أمن وسلامة مصر، واشعال الفتنة بين قواها الحية، كذلك المخطط الذي جرى تنفيذه في العراق.. حفظ الله مصر المحروسة والمؤمنة بأهل الله.