في معادلة غريبة كانت المرأة السودانية في عهدى التركية والمهدية، تعاني من قيود كبلت قدميها وادمت يديها، فالمرأة الحضرية كانت تعاني من التقاليد البالية والمواضعات الاجتماعية المتخلفة، ولذلك كانت (قعيدة بيتها) كما قال الشَّاعر، أما في الرِّيف والبادية فقد كانت تعاني قيود الجهل والعمل الشاق، ولم تبدأ في كسر قيودها إلا خلال الحكم الثنائي (بحذر) وخلال العهد الوطني حيث وجدت التشجيع من قبل المتعلمين ومن جانب القادة السياسيين وبعض الزعماء الدينيين، وقد استفادت من المعطيات الجديدة في اشعال ثورتها ضد المثالب المذكورة، ولكنها كانت ثورة ناعمة وان كانت فاعلة، وبرزت في القيادة زعيمات جسورات قمن بارتياد سبل شائكة وطرق وعرة، إذ لم يكن في نظر الكثيرين أن المرأة ليست سوى كائن يتراوح ما بين الحيوان البهيمي أو الانسان من الدرجة الأخيرة على أحسن الفروض. وقد كان كفاح الرائدات مأثرة مجيدة بحق، إذ كان عليهن أن يكافحن على عدة جبهات في آن واحد، فهناك جبهة الكفاح الوطني ضد المستعمر ومن بعده الانظمة (الوطنية) القمعية، وهناك جبهة الكفاح ضد مواضعات وافرازات المجتمع المتخلف، وهناك جبهة الكفاح من أجل انتشال المرأة من الهاوية التي تردَّت فيها، وذلك عن طريق التعليم والتنوير والتوعية، وكل ذلك في مناخ معقد محتشد بالقضايا والتناقضات المختلفة، والثقافات والمعتقدات المتبادلة، والإثنيات والجهويات المتعددة..الخ. وهكذا سارت المرأة السودانية الرائدة في هذه المزالق وبين تلك المهاوي، وهى تستبطن ميراث ومآثر جداتها عبر التاريخ منذ عهود الكنداكات، وبعد ان افلحت في انشاء وتنشيط أوعيتها التنظيمية، انطلقت بقوةٍ أكثر محققة الانجاز تلو الانجاز، ولابد ان نذكر هنا ان الاتحاد النِّسائي قد نشأ قبل اكثر من ستين عاماً، وكان طوال تاريخه معلماً بارزاً في مسيرة المرأة المكافحة. والفكر الواعي، والنظر الثاقب، والتخطيط الصحيح، والعمل الدؤوب، والتضحية ونكران الذات، استطاعت رائدات النهضة النسوية السودانية تحقيق انجازات ما كانت تحلم بها المرأة في الكثير من دول الغرب المتقدمة، ومن بين تلك الانجازات الأجر المتساوي مع الرجل، بالاضافة الى الحقوق السياسية والدستورية على قدم المساواة مع الرجل، واقتحام المرأة لكل مجالات العمل الخاص والعام والرسمي بلا استثناء، زائداً المكتسبات الخاصة بالمرأة دون الرجل مثل الاجازة للوضع والارضاع، وهى اجازة مدفوعة الأجر.. الخ. وما كان يضير المرأة كثيراً اذا ما فترت أو تلاشت ثورتها بفعل الزمن أو الضجر إذ انها نجحت في تحقيق مساواتها بالرجل وآن لها ان تخلد الى حياة الدَّعة وتستمتع بالمكتسبات التى تحققت لها، ولكن هيهات، فإن الثورة دائمة منذ ان أوقدت شعلتها الرائدات، ومن قلب تلك الثورة التاريخية انبثقت ثورة الأجيال الجديدة من اللائي تمتد ابصارهن إلى آفاق بعيدة، خاصةً وان في متناول ايديهن وسائل جديدة متطورة للتواصل والحوار والتنظيم، ومن فضول القول الاشارة الى وسائل ثوار الربيع العربي. ومن جانب آخر فإن هموم المرأة الجديدة لم تعد هى تلك الهموم القديمة في عهد الرائدات، وبعض عناوين الصحف في الفترة الاخيرة تعكس ذلك، ومنها على سبيل المثال: ورشة سيدات الأعمال تدعو لتأسيس مشروعات صغيرة ومتوسطة.. أديبات السودان يطالبن بمزيد من الحريات لمنافسة الرجال.. التحول الدِّيمقراطي ووضعية المرأة في السودان.. قضايا المرأة والدستور المرتقب.. الخ. وهكذا فطالما ان حركة الحياة تجدد باستمرار فإن قضايا المرأة حتماً لابد أن تتجدد وتتخذ لها وسائل جديدة تتناسب معها، وطالما ان عملية التجدد لابد ان تقابلها عملية رفض تضع أمامها الكوابح فإن التثوير لابد ان يكون صفة ملازمة للتجديد، على ان هذا التثوير المخملي الناعم الذي تنتهجه المرأة السودانية فيه بإذن الله ومشيئته خيرٌ عميمٌ للوطن وأهله.