وفي فاتحة رمضان الكريم.. وبعد أن ابتلت العروق وذهب الظمأ.. وانطفأت تلك النيران الملتهبة بعد يوم مشتعل بالسموم.. اجتاحني فرح الأطفال في العيد.. وأنا موعود.. كل رمضان.. كل رمضان.. أن أحتضن الراديو.. في حميمية وحنية.. ليحملني وحتى ساعات السحر وعبر الأثير الى محطات تفيض دهشة.. روعة وبهاء.. ولحسن حظي.. ولتوفيقي.. فقد كنت أطوف عبر مفاتيح المحطات حول المحطات المترفة.. وفجأة.. «وقفت انتباه» واستدعيت كل الحواس.. وأنا في رحاب الإذاعة الطبية.. وقبل أن ينزلق زورقي خفيفاً وطروباً في ذاك النهر البهيج.. دعوني أقول إنني وعبر سنين وسنوات لم تجتاحنِي هذه الدهشة.. ولم اتذوق هذه المتعة.. ولم أعش في فرح عاصف هذه البهجة.. البرنامج أحبتي كان اسمه «التحليق باتجاه الوطن».. وحتى لا يضيع أجر من أحسن عملا.. فقد كان جهدُ ثلاثي مترف.. مثقف.. ومشرق.. كان عنصره النسائي.. هي «أسماء».. وثانيها وزميلها وثنائيها هو «أبي»، أما قائد المركب وحامل عصا المايسترو..أو ربان البارجة فقد كان المخرج واسمه «ربيع».. لا شيء أعرفه عن هذا الثلاثي المهيب المثقف البديع.. بل أكاد لا اتذكر أسماء الآباء لهؤلاء المبدعين.. الذي أعرفه أنهم وهبونا ليلة أعادتنا الى أيام الوطن الفخيم.. جرجروا الشمس الى الوراء في حركة عكسية لعقارب الساعة.. لنسمع من جديد الى رصانة الحوار وشجاعة الطرح.. وثقة المتحدثين.. تذكرت عندها تلفزيون بيروت في ذاك الزمن البديع.. في الستينيات.. والتلفزيون اللبناني «ابيض.. وأسود» وعندما تطل عبر الشاسة بل عندما تضيء الشاشة المبدعة الفاتنة المثقفة «ليلى رستم» التي كانت تهبنا في تلك الليالي باهر وثمين وغالي الهدايا.. تهبنا في ترف وفرح «نجوماً على الأرض» ثم تذهب بنا الى نجد والحجاز.. وتهامة.. وتلال الملح.. ومضارب تميم.. ونخوض في كثبان الرمال.. لنجلس على البساط.. وفي قلب الخيمة.. لنتابع «محاكمات أدبية».. رأينا عبر «ليلى رستم» عياناً بياناً الأخطل.. وجرير.. والفرزدق.. والنابغة الذبياني.. وحتى امرؤ القيس.. نعم.. أعادني هؤلاء الشباب.. الى تلك الأيام المترفة.. عندما تفتحت عبقريتهم على تصميم برنامج غاية في الفخامة والوسامة والوسامة.. كان الحديث عن الوطن.. ذاك النبيل المدهش الفريد.. وكان عمود خيمة البرنامج هو نشيد الأمبراطور وردي، «وطنا» الذي صاغه حرفاً وفكراً وكلمة شاعر الشعب محجوب شريف.. وكان العنوان- عنوان ذاك الإدهاش- هو «التحليق باتجاه الوطن».. الفكرة جديدة تماماً في هذه الأيام أو السنوات المحتشدة بالبرامج، والتي هي «أي كلام»، الفكرة كنست كماً مقدراً من البؤس والركاكة والمسكنة التي احشتدت في فضاء الثقافة المنكوبة والمنتهكة حرمتها.. الفكرة أعادتنا الى أآيام الرصانة والجدية.. المتسربلة بالبهاء وروائع الألوان والبهاء.. وتشكيل بالحروف والأوتار والورود.. يبدأ الثلاثي المبدع البرنامج.. تقول «أسماء» في صوت يليق بالوطن ونبله.. ومحجوب وبهائه ووردي وعبقريته.. تقول... التحليق باتجاه الوطن» يكرر «أبي» نفس التقديم.. نفس الكلمات.. ويقف خلف كل ذلك «ربيع».. ثم يدخل وردي تحت أمطار النغم.. أصدق كلامك حقيقة وبخاف أخاف الطريق اللي ما يودي ليك وأعاف الصديق اللي ما يهم بيك وتبدأ روعة ملحمة البرنامج.. لاحدثكم بكرة.. عن برنامج.. منحني الثقة وأعاد لي الأمل.. في شباب وطن نبلاء وشجعان وأوفياء.. هم الذين كان يستطلعهم البرنامج ويسألهم اسئلة جريئة ومدوية.. وبكرة نبحر في ذاك النهر الجميل..