إن الألفة أياً كان نوعها فهى شعور نفسي قوي، إن كان المألوف ايجابياً ام سلبياً، ومن قوة هذا الشعور تأتي قوة الشعور بالفراق، وينطبق هذا على علاقتي بهذه المساحة المكتوبة (بقايا خيال) وان كان هناك من يتحدث عن (بنات افكاره) فإن هذا العامود قد كان من (أبناء افكاري) وكان لي الأكثر براً من بينهم، ولعلي كنت له نعم الأب، وقد ظل لصيقاً بي طوال عقود من الزمان، وعن طريقه تعرفت على الكثيرين من الزملاء والقراء الذين تطورت علاقتي بهم الى صداقات حميمة، خاصةً وأنني اتخذت نهجاً سرت عليه، وهو ان تكون (بقايا خيال) مائدة متعددة الأصناف ليجد فيها كل من يحب صنفه المفضل، وهذا ما وسع علاقتي بالقراء الكرام من ذوي المشارب المختلفة. أقول قولي هذا مودعاً ولكن إلى حين، فسوف يحتجب هذا العمود (بقايا خيال) لمدة شهر خلال رمضان الكريم، وذلك لأمر أصبح بالنسبة لي من الضروريات التى لا محيد عنها ان لم يكن على رأسها، وتلك الضرورة هى سفري الى الأراضي المقدسة لقضاء بعض من أيام الشهر الفضيل هناك معتمراً ومعتكفاً وخاصةً خلال العشر الأواخر. انها فترة اقضيها سنوياً هناك، مغتسلاً من أدران هذه الفانية، ومحلقاً في فضاءات روحية سامية بعيداً عن مشاغل الدنيا الدنية، وبصفةٍ خاصة عن عالم ساس يسوس الذي يجر أى صحافي من قرنيه الى الانغماس فيها مهما قاوم، بل وحتى إذا ظل مسمراً في أرضية رصيف هذا العالم العجيب. يقول أصدق القائلين في محكم تنزيله:( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وقال المعصوم عليه أفضل الصلوات والسلام(الصيام جُنة فاذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق وإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم) وحتى نقترب من التقوى (لعلكم تتقون)، ونقترب من معنى (الصِّيام جُنة) فلا بد ان نراقب صيامنا بدقةٍ حتى يتحقق لنا المقصد من فرض هذا الركن العظيم من أركان الاسلام، ومن هنا جاءت هجرتي السنوية الراتبة الى الارض الطاهرة في هذا الشهر الفضيل من كل عام هرباً من مغريات الدنيا وأحابيل الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس فما بين صائم وصائم تفاوت كبير، ومثل لذلك أحدهم من السلف الصالح برجلين دخلا سوقاً واحدة، وأتجرا في تجارة واحدة، اما احدهما فقد كان رجلاً يقظاً منتبهاً لكل ما يناله من الربح، وحريصاً عليه لا يسرق منه سارق ولا يسلب منه سالب، وأما الآخر فقد غره ما يتدفق إليه من الربح الوفير والكسب الغزير، فكان منه التعاون في حفظه، فعدا عليه فريق من اعدائه، واغتنموا منه تلك الغفلة فأغاروا عليه من كل جانب وتركوه فارغ الكفين صفر اليدين، وعندما انقضت السوق خرج الاول فرحاً مسروراً قرير العين، وخرج الآخر كئيباً خاسراً لم ينل إلا التعب والعناء، نسأل المولى عز وجل ان ينقضي ذلك الشهر الفضيل ونحن فرحين مسرورين بما كسبنا، واختتم قولي هذا بكلمة وداع الى ان نجتمع ثانية عقب الشهر الفضيل باذنه تعالى وكل عام .. وكل رمضان وكل الأمة الاسلامية والسودانية على وجه الخصوص بألف خيرٍ .. ونسأله تعالى حسن الختام..