الزمان يعود لربع قرن، المكان كان ميدان الأممالمتحدة والشهر كان رمضان والشخوص عمي عوض الكناس ببلدية الخرطوم وأنا الموظف بالإذاعة وشخص ثالث كان في هيئة ربع لوح ثلج، الطقس كان متطرفاً في الحرارة إذ ان الشهر الكريم صادف منتصف الصيف، من بعيد لمحت عمي عوض يواري الثلج في جوال صغير ونحن ننتظر بص أبورجليه ليحملنا للكلاكلة القبة والبص في قيود المجاهيل وطال انتظارنا وشحت من أبورجيلة الأخبار. جموع الصائمين تتوافد في انتظار البص صديقي حمد قرشي المدير العام للصرف الصحي الآن وبدر الدين طه إمام المسجد وقتئذ والحائر بين المؤتمر الوطني وأمانيه الآن، كان دخول الكلاكلة القبة ضمن خدمات بص أبورجيلة في حد ذاته حدثاً داوياً أفاد منه الراحل عكاشة مضوي في حملاته الانتخابية التي أودت بعبد الباسط سبدرات وجسر أبورجيلة للمرحوم عكاشة مضوي طريقاً سالكاً في لجان تطوير الريف ولكن رغم ذلك ظلت الخدمة ضنينة بالموعد. في ساحة الأممالمتحدة كانت كل الكلاكلة في انتظار البص في اليوم الأول من رمضان وكان عمي عوض يحضن ثلجه ويتأهب للفجيعة، فجأة وعباد الله تعمق أجرها الثابت بإذن الله أطل بص أبورجيله البرازيلي الصنع الواسع الجنبات الواضح القسمات، الحي الشعور، فانخرط عباد الله ركضاً وراء الباب الخلفي واستوا في مقامه المهيب، ووجدت نفسي أجلس في قبالة عمي عوض الذي تضاءل ثلجه من الربع إلى أقل من الثمن، وانطلق البص نحو الكلاكلة سالكاً طريق السجانة ولكننا حين بلغنا محطة (أبو حمامة) توقف البص تماماً ليرتب (بوليس الحركة) الطريق من جديد وكانت هذه المحطة هي المرحلة الأشد خطورة وحرجاً على حياة ما تبقى من ثلج عمي عوض كان نزيفاً مائياً أصاب تماسكه اليابس كأن الصيف كان يتقصده بقرينة التناقض في كل. كأن كل خطوط الاستواء المارة من أقاصي القارة الآسيوية حتى غامبيا تواصت على ثلج عمي عوض واتحدت ضده فنفثت حرها الزعاف على بدنه البارد. حين رتب (بوليس الحركة) الطريق من جديد وانطلق أبورجيلة مثل ثعبان خائف، كان الثلج في الانعاش وفي عناية الحرارة المركزة حتى أسلم روحه الثلجية وسأل بدنه المائي على جنبات البص، حينها رفع عمي عوض يده للسماء وقال: الحمدلله، أما أنا فقد أصابتني نوبة بكاء مازلت استدمعها حتى الآن!.