لقد كانت مهمة الفقهاء في عصر الإسلام الأول شائكة وصعبة في الإفتاء إذ كيف يتجنب الواحد منهم هذه المحازير برضى الله فيما يعترض حياة الناس من معاملات وأحكام كأن يقول الفقيه أحمد بن حنبل: ربما مكثت في المسألة سنين قبل أن أقول رأي فيها، وهو صاحب المسند الذي صنف من بين ثلاثة أرباع مليون حديث منسوب للرسول ( وهو الذي كان يجيب على أكثر سائليه بتواضع العالم الذي يخشى الله: لا أدري). وذكر المؤرخ سحنون مدوِّن الفقه المالكي أن مسألة عرضت للإمام مالك فقال لهم منذ عشرين سنة وأنا أفكر في هذه المسألة وفي مرض موته بكى مالك بكاءاً شديداً وعندما سألوه عن سبب بكاءه قال لهم: وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني، والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها سوطاً، وقد كان لي السعي في كل ما سبقت إليه وليتني لم أفتي، ويروى عن الإمام أبو حنيفة أنه خرج ليلاً في صلاة العشاء ونعله في يده فقابله زفر أحد فقهاء الكوفة فكلمه في مسألة وظلا طوال ليلهم يتحاوران حتى سمعا آذان الصبح دون أن يتوصلا لحل فعادا إلى المسجد و بعد الصلاة عادا للنقاش ثانيةً حتى توصلا لحل. أما الإمام الشافعي فسألوه عن الدليل القرآني الذي يستند عليه في الأخذ بالإجماع فما كان منه إلا أن لزم داره ثلاثة أيام لا يكلم أحداً ركز كل جهده في التفكير والتدبر ثم خرج بعدها للناس متعللاً ومستنداً بالآية القرآنية رقم (115) من سورة النساء جاء في قوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (115)سورة النساء. هكذا كان الفقهاء يدققون ويوزنون الأمور بميزان الذهب قبل أن يتفوه الواحد منهم بكلمةٍ في أمور الحلال والحرام والكفر والشرك والمكروه والمستحب ونحن نعيش الآن في عصر السرعة وأكثر ما يقلقنا في هذا العصر هو التسرع في الحكم وهو من أسباب الوقوع في الخطأ في علم المنطق عندما يصدر بعض الدعاة أحكاماً على الناس بالكفر والزندقة والإلحاد علماً بأن الكفر هو من اختصاص الله ورسوله وهم أعلم بالكافرين والفاسقين، فها هو الصحابي أبو ذر الغفاري يستمع لحديث الرسول قوله:(ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات عن ذلك إلا دخل الجنة) وعندئذ سأله أبو ذر يا رسول الله: وإن زنى، قال رسول الله(وإن زنى وأن سرق ثم ظل أبو ذر يردد السؤال مرتين أو ثلاثه حتى أجابه رسول الله في المرة الرابعة: "وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبو ذر. فخرج أبو ذر يردد قول رسول الله وإن!! رغم أنف أبا ذر ثم يردد قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) سورة الزمر. وها هو الإمام أبو حنيفة بينما هو في المسجد دخل عليه الخوارج شاهرو سيوفهم فقالوا له يا أبو حنيفة نسألك عن مسألتين فإن أفتيت فيهما وافتيتنا نجوت من الموت وإن لم تجب فيهما قتلناك فقال لهم: أغمدوا سيوفكم أولاً فأن منظرها يشغل بالي وقلبي، فقالوا: كيف نغمدها ونحن نحتسب الأجر في أغمادها في عنقك، فقال لهم: إذن ما هي المسألة؟ فقالوا له جنازتان بالباب أحدهما رجل شرب الخمر فمات سكران والأخرى أمرأة حملت سفاحاً وماتت في ولادتها قبل أن تتوب هل هما مؤمنان أم كافران؟ فصمت برهة من الزمن ثم قال لهم فمن أي فرقة كانا من يهود، قالوا: لا من النصارى، قالوا لا قال : من المجوس، قالوا: لا ثم سكت برهة وسألهم ثانية: من أي فرقة كانا، قالوا له من المسلمين، قال: إذن أجبتم قالوا: هل من أهل الجنة أم أهل النار؟ قال لهم: أقول فيهما ما قال الخليل عليه السلام فيمن هو شر منهما. (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) سورة إبراهيم وأقول كما قال عيسى عليه السلام: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) سورة المائدة، فلما سمعوا كلامه اقتنعوا ونكسوا سيوفهم وانصرفوا. هذه نماذج لما تعرض له الفقهاء فكيف لو صدرت مثل هذه المسألة في هذا العصر وعرضت على من يدعون تطبيق شرع الله أو كما يسمونهم الناس بوق الحكام بل هم مسيسون في أعمالهم وأقوالهم. وهناك بعض الأئمة الذين يعتلون المنابر ويخاطبون الناس بالترهيب والتخويف ولا يرون في الإسلام إلا قائمة محرمات وممنوعات وعقوبات وهم بذلك يصغرون من شأن الإسلام من حيث لا يشعرون يحولونه من رسالة هداية البشر ورحمة للعالمين إلى فرمانات إلهية توزع طوابير الناس على درجات جهنم وهم يعتمدون على التخويف والتهديد سبيلاً إلى الهداية والإقناع علماً بأن القرآن يطالب الناس بأن يخاطبوا بالحكمة والموعظة الحسنة وذلك منذ أن نزلت آيات القرآن الكريم التي تعلن:(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (20) سورة لقمان {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (29) سورة البقرة. منذ ذلك التاريخ أجمع علماء المسلمين والفقهاء واستقر رأيهم في أن الأصل في الأشياء الإباحة، على أساس أن ليس معقولاً أن يسخر الله هذا الكون للإنسان ويقيده من نعم الله عليه ثم يحرمه عليه وفي هذا ضاقت دائرة المحرمات في الشريعة الإسلامية واتسعت دائرة الحلال وبقيت النصوص التي جاءت بالتحريم قليلة جداً، والإباحة المقصودة هنا لا تقف عند دائرة الأشياء والأعيان بل تمتد لتشمل التصرفات والأفعال التي ليست من أمور العبادة والتي نسميها العادات والمعاملات الأصل فيها عدم التحريم إلا بما حرمه الله سبحانه وتعالى وفي قوله: ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (119) سورة الأنعام، وفي الحديث الشريف : ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن ينسى شيئاً.