اشترى حذاء «شامو» ليدخل به الوزارة فدخل به سجن كوبر. الاخ الكريم الاستاذ/ عبد الله عبيد مستشار التحرير بمجلة الدستور تحية طيبة وانا اغادر السودان للولايات المتحدةالامريكية كان في وداعي قبل ليلة بعض الاهل والاصدقاء واثناء تجاذنا اطراف الحديث في مواضيع شتى جاءت سيرة الصحافة السودانية وما اكتب فيها من مقالات ، وسألني احد الاصدقاء مستفسرا عن سبب نشر تعليقي على مقالات الاستاذ عبد الله عبيد عن معتقل ناقيشوط في صحيفة الدستور ! بينما علقت عليها في صحيفة (الشارع السياسي !! ) وواصل محدثي فهل أرسلت تعليقك.. ذلك لمجلة الدستور ورفضوا نشره ؟ فنفيت له ذلك وفات على سهوا ان التقاليد الصحافية المرعية ان ينشر أي تعليق تصحيح خبر في نفس الصحيفة التي تم النشر فيها اولاً . أخي الكريم الاستاذ / عبد الله عبيد ارجو المعذرة ..قبل ان اغادر السودان رايت ان اصحح ماحدث عفوا من غير قصد فان رايتم فيه ما يفيد قراء مجلتكم المتفردة الدستور ارجو نشره وسأتابع ما تكتبون وانا على البعد . وفقكم الله وسدد على طريق الخير خطاكم مخلصكم / أحمد سليمان يواصل الأستاذ احمد سليمان تعقيبه :- ( أتابع بمتعة بالغة ومزاج رائق احاديث الصديق العزيز الاستاذ عبد الله عبيد) بمجلة الدستور والتي اتخذ لها عنوان ذكريات وتجارب والأستاذ عبد الله غني عن التعريف فهو يطل علينا صبيحة كل يوم عبر عمود « قلب الشارع » بصحيفة الرأي العام الغراء وكان قبلها رئيسا لتحريرها ولا يزال احد كبار محرريها ومجلتها الدستور وهو ليس جديد عهد بالصحافة فقد كانت له صولات وجولات في عمود « طرف الشارع« وكان من الرفاق المحترفين الذين لهم « شنة ورنة » ويقيمون دنيا الاخ ابارو ولايقعدونها ومن قبل شيخه المرحوم بابكر الديب طيب الله ثراه ويقال ان الرئيس الازهري كان يدمن قراءة عمود (طرف الشارع) ومناوشته الرئيس وحزبه ! إلا أن الأزهري كان شامخا متسامحا على غير ما يصفه اخرون لا يرعون حرمة موت الا ولا ذمة فلا غروا ولا عجب فالرجل كان أستاذاً مربيا للاجيال وزميلنا عبد الله عبيد بجانب ما أشتهر به كسياسي وثوري محترف وكصحفي كان لاعباً ماهراً في نادي الموردة لكرة القدم فالرجل الآن أحد كبار محرري الراي العام ومجلتها الدستور ولعل مشواره بصحبة الرفاق قد انقطع فضلاً من الله ونعمة وهو كما يعبر عن ذلك مجازا « البلق الكهربائي قد انقلع ! » . وقد بدأ منذ اواخر القرن الماضي وبالتحديد في 29/12/1999م يتحدث عن تحربته بسجن كوبر ومعتقل ناقيشوط بحنوب السودان خلال الفترة حكم انقلاب 17 نوفمبر 1958 ضمن 18 شيوعياً آخرين ولما كنت شاهداً من أهلها بوصفي أحد اولئك الذين تشرفوا برفقة الاستاذ عبد الله عبيد وصحبه فقد رايت ان ادلي بدلوي وهي ذكريات لا تشذ عن مجرى احاديث الاستاذ عبد الله عبيد وربما زدتها توضيحا اذ وقف بنا عند قرار الاضراب عن الطعام وكانت رئاسة الجيش بالخرطوم قد اصدرت اوامرها لقائد القيادة الجنوبية بجوبا بترحيل السادة التجاني الطيب بابكر والجنيد علي عمرو وجوزيف قرنق واحمد سليمان وتفريقهم على ببعض سجون الجنوب والشمال وقد رجعت إلى ما سبق ان كتبت وهو لا يضير من كان على علم بشئ من تفاصيل اعتقالنا وتوزيعنا ونرجو ان يجد فيه البعض الآخر متعة معرفة الجديد وما خفى عليهم من تجارب الذين سبقوهم من الاجيال . التوأمة بين اسلامي وشيوعي: كنت والمرحوم الرشيد الطاهر صديقين حميمين وكان النشاط والتدبير السياسي المشترك يجمع بيننا رغم تباين المذاهب واختلاف المبادئ والمعتقدات فقد كان الرشيد عندما عرفته زعيماً أو مرشدا لجماعة الاخوان المسلمين وكنت احد اعضاء المؤسسين للحزب الشيوعي السوداني .. وما اوسع البون وما ابعد الشقة ولكن السودان الحبوب كل شئ فيه «ممكن ومقبول وجائز» وقد كان احدهم يقول ان الذي يجمع بين الرشيد وصاحبه كليهما «مغامر سياسي وانقلابي» ولعله كان محقا في الثانية ولا اظنه كذلك في الاولى فالذي وطد من صلاتنا اقتناع كل منا انه ما من سبيل للتخلص من حكم الفريق عبود الا بانقلاب ( يذيقه طعم الكأس ومرارتها التي سقانا منها حتى الثمالة) وذلك تاسيسا على حكمة الشاعر « ودأوني بالتي كانت هي الداء » وقد كانت بداية عملنا السياسي المشترك أو بالاحرى تأمرنا المشترك الاعداد للانقلاب الذي حدد له صبيحة الجمعة الثاني والعشرين من مايو 1959م الذي كان مقدرا ان تقوم به كل من الفرقة الشرقية التي ترابط بكسلا والقضارف والفرقة الشمالية ومحلها شندي وبالفعل تحركت الشرقية وقطعت الفيافي والقفار وعبرت طليعتها كبري النيل الازرق الذي يربط بحري بالخرطوم عموم ولكنها تراجعت وانسحبت إلى قواعدها نتيجة وعود كاذبة ووساطات من بعض كبار الضباط !!. تحريك القوات المسلحة: والتقينا انا والرشيد امام المحكمة العليا بالخرطوم في صبيحة الاحد الرابع والعشرين من مايو 1959م وكان قد نما إلى علمنا ان المجلس الاعلى لقيادة الثورة قد قرر ارسال اللواء عروة والاميرلاي يوسف الجاك إلى القضارف للتحقيق في امر التمرد ولاعتقال قادته وقررنا الاتصال بكل من الامير لاي عبد الرحيم شنان والأميرلاي محي الدين أحمد عبد الله وكان كلاهما قد فرض نفسه على عضوية المجلس الاعلى اثر انقلاب قامت به الفرقة الشمالية التي كان يقودها شنان بمعاونة الشرقية التي كانت تحت امرة محي الدين وكان ذلك في الثاني والرابع على التوالي من مارس عام 1959 وحاولنا عبثاً الاتصال بالامير الاي محي الدين وكان يقيم بالقصر الجمهوري ولم تثمر مقابلتنا مع الامير لاي شنان فقد رفض بل وسفه اقتراحنا بضرورة استدعاء الشمالية والشرقية واعادة الكرة للاطاحة بعبود وذمرته قبل ان تدور الدوائر عليه وعلى صاحبه محي الدين وعلينا جميعاً .. وقد كان الرجل شجاعا ومغامراً لا يأبه لشئ وخرجنا من عنده وقررنا الاتصال المباشر بضابط الفرقتين وكان للرشيد صلات مع بعض ضباط الشرقيةبالقضارف .. وكانت لنا نحن الشيوعيين بالمثل علاقتنا الرفاقية مع بعض ضباط الشمالية .. وتوجهنا من امدرمان إلى السوق العربي حيث اتصل الرشيد هاتفيا من دكان المرحوم كمال نقد الله طيب الله ثراه .. فقد غيبه الموت قبل بضع شهور وطلب الرشيد من اعضاء جماعته بالقضارف ضرورة اعتقال وفد قيادة الخرطوم ومعاودة الكرة لإحتلال رئاسة القوات المسلحة والاطاحة بمجلس الفريق عبود وحكومته ووعدهم الاتصال برفاقنا بشندي لتنسيق العملية واتفقنا على اللقاء بمكتبه في مساء نفس اليوم لملاحقة ومواصلة الامر. وكان الرشيد يعمل آنذاك محامياً بمكتب الاستاذ محمد أحمد محجوب بعد ان اتم بنجاح فترة تدريبية معه واذكر اننا في طريق عودتنا للخرطوم لمحت في دكان يوسف الفكي او في الحانوت الذي يلاصقه حذاء جميلاً من الجلد « الشمواء » الفاخر واشتريت اثنين احدهما لي والآخر للرشيد وقلت له مداعبا لعله الحذاء الذي تدخل به الوزارة غداً !!. حيث ضحك القدر: وفي الرابعة من بعد ظهر نفس اليوم خرجت من منزلي بابي روف وقررت مشاهدة المبارة بدار الرياضة بامدرمان بين فريقي الهلال والأهلي فقد كنت من هواة مشاهدة مباراة كرة القدم وللتنويه أيضاً حيث كنت قد قررت التماسي دعوة اجتماع طارئ للسكرتارية المركزية للحزب الشيوعي لمناقشة الامر ولتوجيه رفاقنا بالشمالية للتنسيق مع الشرقية والاعداد وتنفيذ خطة الانقلاب ..ولكن « ضحك القدر » فما ان امسكت بعجلة القيادة بسيارتي إلا وقد رأيت أمامي «ثلة» من رجال البوليس السري بقيادة الصول مصطفى الكتيابي الذي ابرز أمراً من وزير الداخلية باعتقالي اعتقالا تحفظياً .. وكنت انتعل الحذاء الشمواه الجديد ، وبدل ان ادخل به الوزراة دخلت به سجن كوبر ومنه إلى سجن جوبا ومنه إلى معتقل ناقيشوط وبعده إلى سجن جوبا مرة أخرى ثم إلى مريدي ثم إلى سجن رمبيك ثم إلى واو وأخيرا إلى مستشفى الخرطوم الجنوبية حتى الحراسة إلى ان اطلق سراحي لابدأ مع آخرين ومع الرشيد ومن جديد محاولة انقلابية ثانية لم يكتب لها النجاح بالرغم من الاستيلاء على الكباري وعلى بعض مواقع القيادات الرئيسية ولم أدخل السجن هذه المرة .. وإنما دخله الأخ الرشيد ليبقى خمس سنوات عجاف !! ونقلب الصفحات ونقف عند الثالث والعشرين من أغسطس عام 1959م وكان المكان معتقل ناقيشوط وكان عددنا يربو عن العشرين معتقلاً وكان قليلاً من العدد الذي ذكره الاخ الكريم عبد الله .. وقد جعلت لنا القيادة الجنوبية التي يقع المعتقل ضمن منطقتها العسكرية بيتي المفتش ونائبه نزلاً .. وكانت ناقيشوط فيما مضى مركزاً من مراكز كبويتا حاضرة قبيلة التبويسا وكانت تتبع للاستوائية التي عاصمتها جوبا وقد عرف التبويسا بالشراسة والغلظة ومنطقتهم تتأخم يوغندا .. وكان البرد قارساً والطعام بائسا والمعيشة ضنكا وليس كما قال الاستاذ عبد الله الذي اختلط عليه الامر بعد ان اطلق سراحهم وحددت اقامتهم بفندق جوبا .. وربما كان الامر نسبيا بالنسبة لاولاد الذوات من المعتقلين مثل المرحومين دكتور عز الدين علي عامر وعلى محمد ابراهيم المحامي وربما كنت ثالثهما فقد كنا نعيش في رغد من الغيش بل وبطراً وحيث لا مقارنة لما كان عليه حالنا قبل الاعتقال وبعده وما كان عليه حال الاستاذ عبد الله عبيد وأمثاله من المحترفين الثوريين الذين كانوا لا يتقاضون إلا ثمانية جنيهات «مرتبهم الشهري من الحزب بعد أن تركوا الوظيفة وتفرغوا للنضال الوطني» ولا نقول ذلك احتقاراً لشأن مناضلين اشداء كانوا يحسبون ان الماركسية حق وما دونها من فكر باطل !! احمد سليمان ينتقد نفسه: قد عزلنا في المعتقل عزلاً تاماً ولم نكن ندري ما يدور خارج السلك الشائك الذي احاط الجيش به نزلنا وكان قد مضى ونحن على تلك الحالة التعيسة ما يجاوز التسعين يوماً فقد تم اعتقالنا اثر فشل محاولة القيادة الشرقية الانقلابية الاخيرة وكان اعتقالنا بامر صادر من وزير الداخلية وكان المفروض قانونياً ان يتجدد الامر بالتحفظ شهرياً .. ولم ير جميعنا بداً من الاضراب عن الطعام .. وقرر الرفاق اعفائي من تنفيذ قرار الاضراب اذ كنت حديث عهد بعملية جراحية اجريت لي في موسكو استؤصلت بمقتضاها قرحة معوية لعينة وكان الاضراب عن الطعام يعني انتقالي السريع إلى حيث السابقين من الاهل الذين توسدوا الثرى بغبراء أحمد شرفي ولو هيئ في ذلك الوقت لبعض أولئك الرفاق الذين بعدت بيني وبينهم الشقة اليوم ، أو تيسر لهم «ثقب حجب الزمان» لاصروا على عدم استثنائي من الاضراب ولما توانيت وقتها من تنفيذ القرار الحزبي رغم مخاطره فقد كنت ظلوماً جهولاً .. ظالماً لنفسي وجاهلاً بحقيقة « الزفة » التي كنت اسير منكباً على وجهي ضمن طليعة موكبها ..