مهما سرح المرء وأطلق العنان لخياله لرسم سيناريوهات متعددة لنهاية الصراع على «السلطة والمستقبل» في مصر بين القوى الإسلامية والقوى العسكرية ومؤسساتها من جهة، وبين القوى الإسلامية ممثلة بحزب الحرية والعدالة والقوى المدنية الوطنية الليبرالية واليسارية من الجهة الاخرى، لا يمكن أن يكون السيناريو الأخير الذي أعلن عنه الرئيس محمد مرسي كخاتمة للصراع السياسي بين هذه القوى الثلاث وارداً بين تلك السيناريوهات الافتراضية. حزمة القرارات «الصاعقة» والمباغتة التي اتخذها الرئيس مرسي مساء الأحد، قبيل الإفطار والاحتفال «بليلة القدر» في قاعة جامعة الأزهر، والتي قضت بإحالة المشير محمد حسين طنطاوي القائد العام وزير الدفاع والإنتاج الحربي وأهم من ذلك رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية الحاكم في مصر ما بعد مبارك ونائبه رئيس الأركان الفريق سامي عنان. مثلما قضت «عملياً» بإلغاء المجلس الأعلى نفسه إلى حين تشكيله، بل وإلغاء أهم آثاره وأكثرها إثارة للجدل «الإعلان الدستوري المكمل» الصادر في 17 يونيو الماضي استباقاً لإعلان نتائج جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة والذي يحد من صلاحيات الرئيس المنتخب ويضع عملياً «فيتو» من جانب المجلس العسكري على كل قراراته السيادية التي يجب أن تتم «بموافقة» وليس فقط استشارة المجلس بما في ذلك قرارات السلم والحرب. بهذه الحزمة من القرارات التي يمكن وصفها ب«الضربة القاضية» انتصر مرسي لحزبه وجماعته ومنصبه الرئاسي الذي استرد صلاحياته دفعة واحدة. بحزمة القرارات الأخيرة، يمكن القول - وباطمئنان- إن دولة مصر وسلطتها السياسية قد دانت كلياً لجماعة «الإخوان المسلمين»، تديرها عبر ذراعها السياسي «حزب الحرية والعدالة» كيفما تشاء، وإن تلك القرارات بدت كما أنها كانت اللحظة التي تنتظرها الجماعة، بصبر وعزم لا يلين، على مدى ثمانية عقود ونيف.. مباغتة الخطوة أذهلت المراقبين في كل مكان من العالم، لدرجة إحداث «حالة شلل» تام، أصاب أجهزة الحصول على المعلومات مثلما أصاب «قدرة العقول» ذاتها على التحليل في ظل غياب المعلومات. وربما كان ذلك -والله أعلم- هو بعض نتائج الخبرة الطويلة والممتدة للجماعة في العمل والتنظيم السياسي الذي أفرز لديها حساً متميزاً ومرهفاً لكيفية رصد اللحظة المناسبة وعدم تفويت الفرصة عندما تحين على ما غير ما توقع. لهذا كان حادث رفح ومقتل 16 من ضباط وأفراد القوات المسلحة ساعة الإفطار نهاية الأسبوع الماضي بمثابة جرس الإنذار لدى الرئيس مرسي وحزبه وجماعته الأم بأن «الوقت قد حان» ولابد من الإسراع باتخاذ القرار، قرار «كل السلطة للإخوان»، كما تحدث قبل ساعات معدودة من ذلك مرشد الجماعة السابق مهدي عاكف بإحدى الفضائيات المصرية، حيث قال إن سلطة الإخوان تكون عندما تكون الجماعة قد تمكنت من كل مفاصل الدولة المدنية والدبلوماسية والعسكرية، وكأن عاكف كان يؤذن في الناس باقتراب «اليوم الموعود» الذي خرج د. مرسي لإعلان تفاصيله. حالة الذهول، امتدت من دول الجوار العربية إلى كل مكان في القارات الخمس، وقبلها إسرائيل التي بدت مرتبكة وقلقة إزاء الخطوة كما قال راديو إسرائيل نقلاً عن مصدر سياسي كبير قال أيضاً إن القرار فاجأ المسؤولين الإسرائيليين الذين رأوو فيه «خطوة نحو التطرف»، وإن كان التعاون العسكري بين مصر وإسرائيل مهماً للطرفين لإعادة الأمن والاستقرار في جزيرة سيناء، بينما قالت صحيفة يديعوت أحرونوت إن اللواء عبد الفتاح السيسي الذي عينه مرسي قائداً عاماً ووزيراً للدفاع «يعتبر شخصية غامضة» بين المصريين، ولكنه يعرف جيداً جميع أعضاء القيادة العسكرية في إسرائيل -ربما بحكم موقعه كرئيس للاستخبارات العسكرية- بينما رأت نيويورك تايمز أن القرارات التي اتخذها «مرسي» تمثل «انقلاباً» لمصر بعد أن أجبر قادة الجيش على التقاعد، معتبرة الخطوة «تطهير مذهل» يبدو للحظة كأنه استعادة القادة المدنيين للسلطة السياسية التي طالما حُظي بها الجيش منذ سقوط مبارك العام الماضي. وأشارت الصحيفة إلى ترحيب الإدارة الأمريكية فيما مضى بترتيبات اقتسام السلطة بين حكومة مرسي المدنية والجيش، وإلى أن البيت الأبيض والخارجية امتنعا -حتى صباح أمس الاثنين- عن إصدار رد فعل فوري على القرارات. هذا التريث في رد الفعل لا بد أن له دوافعه - خصوصاً عندما نتذكر العلاقة الخاصة التي تربط مصر وجيشها مع الولاياتالمتحدة التي تتكفل بجزء كبير من تمويله وتسليحه وتقديم المساعدات التدريبية له منذ توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل برعاية الولاياتالمتحدة فيما عرف باتفاقية كامب ديفيد، فأيلولة السلطة بكلياتها إلى جماعة الإخوان المسلمين ورئيس يمثلهم لابد أنه أمر خطير وحادث جلل في بلد بأهمية مصر الإستراتيجية حيث مستودعات الطاقة العالمية في المنطقة العربية والشروق الأوسط. هذا التريث ضروري لإمعان النظر في مجمل الخطوة وما إذا كانت متسقة مع تفاهمات وتطمينات سابقة كان قد أعطاها بعض رموز الإخوان وفي مقدمتهم نائب المرشد خيرت الشاطر في لقاءات بين الطرفين جرى بعضها في القاهرة وبعضها الآخر في الولاياتالمتحدة وتحدثت عنها وسائل الإعلام في حينها. حالة الذهول والشلل، لم تقتصر على ردود الأفعال الأجنبية، بل قبل ذلك سادت الساحة السياسية المصرية، ولم نسمع عن مقاومة ذات بال لقرارات مرسي «المصيرية» سوى مظاهرة صغيرة حول مبنى وزارة الدفاع اجتمع فيها عدة مئات نددوا بالقرارات وحذروا من «هيمنة الإخوان»، وهو تحذير -كما نرى- بعد فوات الأوان، كما طالعت حديثاً للمرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي بندوة في الفيوم -الذي جاء ثالثاً في الجولة الأولى بعد مرسي وشفيق- يؤيد «من حيث المبدأ» خطوة مرسي للتخلص من هيمنة العسكر لكنه يطالبه أن يتخلص أيضاً من «هيمنة الإخوان» ويصبح «رئيساً لكل المصريين وليس للجماعة» وهو مطلب لا يخلو من «مثالية» لا تليق بسياسي ناضج كحمدين صباحي، أما الدكتور عمرو حمزاوي الباحث السياسي السابق بمعهد كارينجي والنائب الليبرالي المستقل في مجلس الشعب المحلول فقد دعى أمس من خلال موقعه في تويتر التيارات الليبرالية لعدم المساومة على مباديء الديموقراطية التي تفضي بإدارة المدنيين للشأن العام وخضوع العسكريين لإشرافهم ورجاهم بأن لا يساوموا -لا خوفاً ولا لحسابات انتخابية- لأن قرارات مرسي كما قال «تذهب في الاتجاه الصحيح». كل ذلك يؤكد أن قرارات مرسي بفرض سلطته وصلاحياته الكاملة كرئيس للجمهورية وقائد أعلى للقوات المسلحة بالإضافة إلى السلطة التشريعية التي آلت له بعد أن انتزعها من المجلس العسكري وإلغائه الإعلان الدستوري المكمل، أن تلك القرارات لم تجد مقاومة تذكر لا من الخارج ولا من القوى العسكرية ولا السياسية في الداخل، وبالتالي فهي ماضية، خصوصاً بعد أن سبقتها قرارات ممهدة حيث عمد مجلس الشورى إلى تعيين كل قادة الأجهزة الإعلامية القومية المقروءة والمسموعة والمرئية، قطعاً ليس كلهم أو أغلبهم من الإخوان، ولكن كما عبر البعض بأنهم «إخوانيو الهوى»، كانت الإطاحة يوم الخميس الماضي برئيس المخابرات العامة وقائد الحرس الجمهوري أول اختبار عملي لرد فعل المؤسسة العسكرية و«مر بسلام». من الآن فصاعداً فإن على الجميع أن يتعايشوا مع مصر تحت سلطة الإخوان المسلمين إلى أن تجرى انتخابات جديدة تكتب لهم الاستمرار أو تأتي بغيرهم، هذا إذا قدر لمصر أن تشهد انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة مرة أخرى، وتلك غاية المنى.