أخي القارئ العزيز.. هذه إطلالة أسبوعية.. نلتقي فيها عبر هذه البوابة قصة هذا العمود: قبل سنوات عرض علي الأخ الودود والخلوق الأستاذ حسن ساتي رحمه الله أن أكتب عموداً تحت هذا العنوان «أنفاس الجمعة» ينشر في «آخر لحظة» صباح كل جمعة. ولقد أراد لي رحمه الله أن أخرج من محبس «سندس» إلى آفاقٍ رائدات وأن أعود إلى عالم المعاني، وبعد وفاته ألحَّ عليَّ الأخوان: الحاج عطا المنّان والأستاذ الكريم أبو العزائم أن استجيب لهذا الطلب، شكر الله لهم جميعاً. ولقد قدَّر الله لي أن انتقل من عالم سندس إلى عالم الذكر والذاكرين، من زراعة التروس إلى زراعة النفوس واذكر كلمة قالها لي أستاذي سعد الدين محمد أحمد-من علماء العربية الكبار- عندما أكملت الثانوي وقُبلت في كلية الهندسة «المعهد الفني-جامعة السودان» كتب إليَّ قائلاً «يا بُنيَّ هجرت المعاني إلى المباني». والرجل حي يرزق.. وحريص على عودة تلميذه إلى عالم المعاني، أحييه وأقول له «لقد عدت يا أستاذ إلى عالم المعاني» وأسأله الدعاء لي بالتوفيق. وهي فرصة أحيي فيها سندس.. وعالم سندس والذي أنفقت فيه أحلى سنين العمر.. وتعلمت منه الكثير.. تعلمت كيف يكون الصبر والمصابرة والمباصرة.. وأحمد الله أنه شب عن الطوق وأصبح معلماً يلمحه الناس ويأكلون من ثمراته وأتمنى للقائمين عليه السداد والتوفيق. ومن حسن المصادفة أن أبدأ هذه السلسلة من الكتابة في شهر الله رمضان.. موسم الهجرة إلى الله وهذا فأل حسن. عالم الأنفاس: الأنفاس من الوجهة اللغوية هي جمع «نَفَس»، وكلمة النَفَس بفتح الفاء لها ظاهر وباطن.. فظاهرها هو التعريف «الطبي» والذي به حياة الإنسان.. حتى إذا ما انقطع نفسه عُرف أنه مات، ومنه الكلمة الشعبية «النفس الطالع والنازل». والمعنى الباطن.. يأتي من «النفاسة» والشيء النفيس هو الشيء العزيز النادر، وهو كما يكون في المعادن يكون في عالم الناس والمعاني.. وقرأ بعضهم في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد جاءكم رسولٌ من أنْفَسِكم» أي من أغلاكم وأندركم. والأنفاس ارتبطت بالخواطر الشفافة والتعابير الأنيقة الشجية التي تصدر عن النفوس الذاكيات والقلوب الصافيات، وهو تعبير يستعمله أهل التأمل والرقائق والوجدان فيقولون هذا رجل من أهل الأنفاس وهذه العبارة فيها نَفَس رباني، وأذكر عبارة لصديقي الكريم بروف كمبال «طبيب بمستشفى الملك خالد-الرياض» عندما يعجب بفكرة ما أو تعبير ما يقول لي إن كلام هذا الكاتب فيه «نَفَس». والتعبير هذا ربما يعود من ناحية تأصيلية إلى قصة خلق الإنسان في منظور القرآن «إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» والشاهد هنا التعبير «روحي» وهي روح مضافة إلى الخالق عز وجل.. والقرآن لم يقل نفخت فيه الروح إنما قال «من روحي» لأن الروح نفخها في سائر الكائنات ولكن تميز الإنسان بأن روحه فيها هذه الإضافة الإلهية الحانية «روحي».. والإنسان لهذا السبب مؤهل بأن يتحلى بمعالي الصفات والسلوك النفيس.. وجاء استعداده من باب هذا النفس الرباني. وصاحب الأنفاس -أخي القاريء- له ولع بهذا النوع من المعاني منذ نعومة أظافره.. ومن ولعه أنه أصدر كراسة شعرية اسماها «أنفاس العشية» حوت كل محاولاته الشعرية الباكرة.. وهو صبي غض الإهاب وكذلك أنشأ مركزاً اسماه «مركز النفائس للإبداع والتنمية». انظر اليه وهو صبي يافع.. تلميذ.. في مدرسة المؤتمر الثانوية في الستينيات من القرن الماضي.. وهو يحلم بمستقبل واسع عريض للإسلام والمسلمين ويدندن قائلاً: فماذا أخي لو أطلّ الصباح.. وعمّت مبادئ شريعتنا وغنّى الوجود أغاني الحياة.. وعاد السلام وتلك المنى وعادت لنا ذكريات رطاب.. وعشنا سوياً ليالي الهنا وعاد السحور وقرآنه.. وهزّ جوانح إحساسنا ورجّعت الكائنات الصدى.. وأوّبت الريح من حولنا فهذي مناجاتنا يا رياحُ.. فهلاّ استجاب لنا ربنا فإني سئمت الخمول المقيت.. وعفت بغير مني وانظر اليه كذلك يا صاح وهو يحاول التأمل ويرسل الطرف بعيداً: تحركني خواطر مترعات.. وأقرأ لونها في كل جنس وانسج أُغنياتي دافقات.. اضمنها صبابتي وهمس واتلو في كتاب الفجر لحناً.. عميقاً رن في هضبات نفسي «وأنفاس الجمعة» عنوان فضفاض يتسع لكل المعارف الإنسانية والإبداع البشري وهو بذلك ماعون واسع يستقبل كل فيوضات أهل السودان بكافة اتجاهاتهم ومللهم ونحلهم وسيكون منبراً حراً لحراك ثقافي واجتماعي وسياسي وفكري.. فإنّ الأنفاس أشبه بملح الطعام تدخل في مزيج كل شيء فتكسبه الطعم والرائحة واللون.. هي «بهار الأفكار». واعلم أنّ هذه مهمة صعبة ولكن يقع تيسيرها على جماهير القراء الكرام والذين افتح لهم صدري وعقلي وموقعي على الانترنت مرحباً بكم أحبائي ولنبدأ بحول الله وقوته.