والحكمة هي الهدف المنشود.. وهي -كما تعلمون- سداد الرأي وسلامة التعاطي.. ولا يكون ذلك إلا بتوخي الإدراك والمعرفة بالذي تكسوه هذه الصفة الباهرة.. وقد تسامت بها الآيات الكريمات من كتابنا الخالد حين قال المولى عز وجل «.. ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً..» وقد نُعِتَ بها على رؤوس العالمين (لقمان).. (لقمان الحكيم).. وهو كما أوردنا قول البرفيسور عبد العال عبد الله -يوماً- إن (لقمان) هو ابن «الخوجلاب» شمال «بحري» وأنتم والعرب كلها تقول «أرسل حكيماً ولا توصي» وهذا يدل على أن من أُورث «الحكمة» يعرف «شعاب» و«ثنايا» الأمر المعني.. إن أُعطيَه بمواصفاته وكُلف به.. ولذلك يقال (حكيم العرب) يعني الذي يقودهم ويدلهم على ما يصلح شأنهم في سوانحه كلها.. وقلت لكم يوماً.. (حكيم العرب) وهو الزعيم (بابو نمر) كحكمة أخيه الآخر (شيخ العرب) -أبو سن- حيث كست (بابو) حلة (الوفاق) عقوداً متلازمة، هو والزعيم (دينق مجوك) في ديار (المسيرية والدينكا)، وتبادلا المقاعد التشريعية الوطنية بالخرطوم.. والحكمة تلبس المرء حللاً وأقبية عصرية متلاحقة.. وكلكم معي لقول (أبو حيان التوحيدي) حيث يقول عن إثبات الحكمة وتخصيصها لأمم بعينها.. ثم تتفرع، ولكم أنتم الاندياحات والقياس.. فيقول «أبو حيان» «نزلت الحكمة على (رؤوس) الروم.. و(ألسن) العرب.. و(أيدي) الصين.. و(قلوب) الفرس».. وبقياسنا المعاصر.. إن الإبداعات والابتكارات التي طورت اليوم فأحدثت معجزات.. لا يصدقها الذي لم يعايشها.. فهي «أي الابتكارات» تصاعدت من «الروم» قديماً.. ولنقل الغرب «البعيد» حالياً.. وهذا من ابتدارات رؤوسهم و رؤاهم حتى وإن (سلقوا) بعضه من بين أعمدة حلقات المساجد ودور الذكر.. وليس عجيباً أن يأخذ أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) نظم المحاسبة وضبط الملفات.. أخذه منهم (أي الغرب) ثم ضبط هو تعاطيه والتعامل به.. ثم أرسلوا «أي المسلمون» أرسلوا من يتعلم اللهجات واللغات الأخرى.. حتى يكمل التفاهم والتكلم مع الآخرين.. وسحرهم بالبلاغة والمعاني.. إنما أُسند ذلك (للعرب) الذين اختيروا لتبليغ كلام الله للعالمين كافة بفصاحتهم هذه.. حتى قيل لهم «بلغوا عني ولو أية» وهي الأمة المسلمة في كل فجاج الأرض.. ولهذا «فالخطابة» وإفشاء وإجادة المعنى.. اختص بها العرب.. ذات (الحكمة) الكلامية التي تخرج من أفواههم عبر ألسنتهم.. وإذا كانت اللغة العربية هي ذات الأهازيج والآفاق الممتدة.. ولا تدانيها لغة أخرى.. لسعتها واستيعابها وبلاغتها.. فجعلت «يومئذ» في «الجنة» هي «لغة ساكني الجنة جميعاً» وإذا خصَّهم «أبو حيان» بذلك وهم أهل «لذلك».. فإن أهل الذكر «أي أهل الدراية» حدَّدوا ضوابط وموجهات للخطيب.. ليكون أهلاً لهذا اللسان الحكيم.. فقال «أي أبو حيان».. «أن يكون الخطيب خالياً من العيوب الكلامية من «فأفأة» ونحوها وأن تكون (مخارج) حروفه صحيحة.. وأن يكون «فصيحاً» طلق اللسان «ثابت» الجنان «ذكي» القلب.. وقد يكون بعض الناس مستعداً كل الاستعداد للخطابة.. إذ يكون قد منحه الله كل مؤهلاتها.. من (صوت جهوري) و«عقل ألمعي» و(قلب ذكي) و«نفس متوثبة» و(لسان مبين) و«خاطر حاضر» و(بديهة مستيقظة) و«فراسة مدركة» و(نظرات نافذة).. ومثل هذا لا يحتاج إلا إلى التعليم والممارسة.. وتنمية مداركه ليكون خطيباً مفوَّهاً.. ومن أمثلة الخطابة الخلابة قول: «المسعودي» في حب الأوطان «إن من علامة الرشد أن النفس إلى مولدها مشتاقة.. وإلى مسقط الرأس تواقة.. وقد ذكرت العلماء: أن من علامة وفاء المرء ودوام عهده.. حنينه إلى إخوانه وشوقه إلى أوطانه.. وبكائه على ما مضى من زمانه».. وهكذا تمضي حكمة فصاحة العرب على لسانهم وأبلغهم طرة هو الذي أوتي جوامع الكلم وهو محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي.. الذي يقصر المداد عن الإحاطة بفصاحته وبلاغته وحكمته.. حتى أدى الأمانة وبلَّغ الرسالة وتركهم على المحجة البيضاء.. ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك.. ثم تعجبوا -أنتم- معي لحكمة الأيدي (الصينية) وقد دلنا عليهم «مصطفانا» صلى الله عليه وسلم بأن نطلب العلم ولو في الصين.. التي لا يدريها «أي الصين» لا يدريها الناس يومذاك كدرايتنا نحن اليوم.. وهم معنا أرضاً وجواً وبحراً وعمقاً.. حتى أنني وجدتهم يوماً «شرق المجلد» وسط «فرقان» للعرب الرحل يأكلون معهم «العصيدة» بأيديهم تلك.. ويشربون معهم (اللبن) من ضرع أمه مباشرة.. وتقف سيارتهم إزاء بيت للعرب وحولها العجول والبقر.. فهم إذن أصدقاء.. بعضهم بدأ «يصلي» معنا.. فالحكمة في أيديهم الماهرة.. إذ لا ينظرون لشيء -أياً كان- إلا وأجادوا التقاطه وصنعته بأيديهم الصغيرة هذه.. وعقول الفطنة السريعة الاستيعاب.. وكلكم تعرفون و«تحفظون» لهم مواقف وطرائف متعددة.. فانظروا ملابسكم الوطنية التي تشبه «بالتمام» زيه و«جلابيته» وعمامته صلى الله عليه وسلم لمن رآه منكم في المنام.. (فالصينيون) أجادوا هذا الزي كاملاً.. بكل تشكيلاته وفي فترات ظرفية قصيرة جداً.. والأعمق من ذلك أنهم (أي الصينيون) أدركوا وفهموا (مزاجكم) أنتم بدقة.. حتى دواخلكم.. ولهم معنا صداقات ومساجلات ومزاح برئ فإذن عليكم أنتم بحكمتكم وعليهم هم بحكمتهم «فالشيء بالشيء» -كما تقولون- ولكم بذلك أجر.. لأن النبي صلى الله عليه وسم يقول: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم».. وتمضي الحكمة.. لتدخل (قلوب) الفرس.. والقلب هو مفرق الجسد.. ودائرة العقل والميزان النابض.. فإن كانت «إيران» وما جاورها من بلدان فلتنظروا ثبات الأفئدة وقوة التصدي للمنكر والباطل وتحدي المرجفين والمخيفين لغيرهم.. ومامواقف «الخميني» منكم ببعيد.. وتعيشون الآن مجالدات «نجاد» الرئيس.. فإذن صلحت قلوبهم فصلح الجسد كله.. ومن منا «منا» لا يرعب إن اختل قلبه.. لكن أن يكون «اي القلب» مصمماً على الحكمة والرشاد فهذا هو العجب العجاب.. حيث هذا هو العمق الأظهر والأخطر.. وهو العمود الذي تقوم عليه بناية الجسم البشرى.. فما أجزلها من حكمة وما أزكاها من عطية إلهية.. تضاف للمعجزات غير المتناهية.. فاللهم اعط نفوسنا تقواها وزكها فأنت خير من زكاها.. وآتنا حكمتك التي ترشدنا لأقوم طريق في الدنيا والآخرة.. وآتنا حكماً وعلماً وصلاحاً..