ومازلنا في عرض البحر.. ومازلنا نتجول تحت سحب وغيم الإدهاش في ذاكرة الأمة ومازال الوابل من البهاء ينتظر.. وذاكرة الأمة أسخى سحبه.. ويأتي «الكرو».. يأتي لنا متهللاً باسماً.. باسطاً ذراعيه حميمية وترحيباً «طاقم» السفينة ليقول لنا في صدق وحق.. إنكم تظلمون ذاكرة الأمة كثيراً إن اعتقدتم أنها مجرد مسرح لبديع ورفيع وأنيق الأغاني.. وصحيح إن الذاكرة تختزن في تلافيفها.. بديع اللوحات وباهي الصور.. وأنيق المفردات الملونة المنغمة عالية التطريب من سيل لا يجف ولا ينضب نهراً من الغناء.. ولكن أيضاً تحفل الذاكرة.. بكل نشاط وإبداع وإشراق إنساني بديع صاغه تماثيل شعب الوطن النبيل.. ويواصل «طاقم» الذاكرة قائلاً.. والآن تفضلوا إلى خشبة مسرح السفينة.. لتروا وتستمعوا وتدهشوا.. وتفرحوا وأنتم تشاهدون الوجه الآخر والذي هو أكثر إضاءة وإشراقاً من السودان. ونأخذ مقاعدنا الوثيرة.. في ذاك المسرح الأنيق.. ونفتح كوة التاريخ لنرى السودان بعيون «الذاكرة» في ذاك الزمان الأنيق.. وجه السودان المسلم الرصين الوسطي رائع الخصال واسع السجايا.. وتشتعل السماء- سماء الوطن- بعطر القناديل وعبق المصابيح.. ويجلجل صوت «بشير الحضري».. ويعقبه السماني أحمد عالم.. وصوته الحنين الذي يستمطر الدموع حتى من صم الحجارة.. وتتسع عيوننا فرحاً ودهشة.. تكاد تخرج من محاجرها.. والسودان حينها ووقتها وفي ذاك الزمان البديع.. رمانة ميزان الإسلام.. لا إفراط ولا تفريط.. سماحة ورفيع خلق وتسامح.. ووسطية وإتزان.. وعقل.. ودعوة وموعظة بالحكمة.. ويلتف الناس.. ولا ينفض من حول مولانا «عوض الله صالح» أحداً.. ياله من زمان وشتان ما بين بيض الطير والقبب.. ونحن نعيش زماناً محتشداً بالغلواء والتطرف وغلظة قلوب.. ومفردات تنفير.. وصيحات تحذير.. وصراخ ودوي وتخويف وترهيب وتخوين.. وزمان الطيبة واللين زمان مولانا عوض الله صالح.. يفتي في استقامة .. ويهدي إلى التي أقوم في أمانة... يبتسم ويضحك.. ويرسم وترتسم على وجهه كل ظلال وخطوط الإنسانية والسماحة الفائقة.. بل لا يجد حرجاً في اطلاق فرحة و«نكتة» بريئة مرحة ورصينة.. ويحكي في حلو كلمات.. أنه قد جاءه يوماً شاب قد «طلق» زوجته.. يأتي اليه حزيناً كسيراً وهو يطلب فتوى «مستحيلة» تبطل ذاك الطلاق.. يؤكد له مولانا إن الطلاق قد تم ووقع فعلاً وقولاً.. هنا قال له الشاب «ولكني يامولانا قد طلقت زوجتي عندما كنت غاضباً».. هنا قال له مولانا «عوض الله» ضاحكاً.. «وهل سمعت يا ابني أن أحداً قد طلق زوجته وقد كان فرحاناً». وتنتهي حصة الدين.. ويأخذنا الأحبة.. من البحارة.. تتقدمهم الأنيقة المذيعة البهية المعتقة محاسن سيف الدين إلى مسرح الثقافة.. بعد أن نهلنا بكفوف مترعة من شهد الدين المصفى... تأخذنا إلى الركابية.. حيث على المك وقراءات.. بها نزهو ونسمو ولا نعرف للقبب محلاً.. محلقين مع الأفلاك في المجرات البعيدة.. كلنا دهشة.. وملء عقولنا «تخمة» من مائدة.. حافلة بألوان وشراب مختلف ألوانه.. وتهبط بنا على صوت موسيقي.. ليس للآلة سهم فيها.. مقطوعات من الجمال والمحال.. بلا «بنقز» ولا «ناي» ولا حداء وتر ولا بكاء ناي بلا صخب جيتار.. يتدفق نهراً من الموسيقى.. يطرب حتى جلمود الصخور.. اسمه صوت «ليلى المغربي».. ياالهي.. هل يعود ذاك الزمان.. علمياً وواقعياً لن يعود.. لن يعود.. ولكني سوف أجعله يعود.. بل لقد عاد بالفعل.. حضوراً طاغياً وشاهقاً وشامخاً.. حضوراً أنيقاً ورفيعاً.. وبديعاً.. حضوراً اسمه إذاعة ذاكرة الأمة. أحبتي.. في ذاكرة الأمة.. من «عوض أحمدان» وحتى آخر جندي يقدم لكم «الشاي» أحني قامتي.. وأرسل شكري.. وأمتثالي وعرفاني لكم فرداً.. فرداً.. وبعد العيد.. ألاقيكم.