مرت أمس الأول الجمعة وقفة «لا لسيطرة الإخوان» بسلام، لكنها لم تكن بلا أثر.. وقفة تصور منظموها وفي مقدمتهم النائب السابق- المثير للجدل- محمد أبو حامد أن تكون بمثابة «ثورة ثانية»- مليونية- تسقط حكم الإخوان في مصر أو مقدمة لاسقاطه، لكن لم يكن ذلك إلا من قبيل سوء التقدير- للقوة وللوقت- في آن معاً. الأثر المباشر الذي تركته الوقفة أو التظاهرة التي لم يشترك فيها سوى آلاف معدودة مثلوا نحو 15 حزباً وحركة صغيرة، هو ذلك التوتر والارتباك الذي أحدثته في صفوف القوى الحاكمة وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين وحزبها «الحرية والعدالة»، توتراً عبروا عنه بتصريحاتهم الإعلامية واستنفار قوى الدولة من شرطة وقوات مسلحة سدت الطرقات والمنافذ المؤدية للقصر، وبتعبئة كوادرهم الشبابية لمواجهة الموقف باشتباكات في ميدان التحرير وفي أكثر من مكان في القاهرة والاسكندرية. أما الأثر الأهم، فقد كشفت التظاهرة وما أعقبها من اعتصام طوال الليل أمام قصر الرئاسة الذي بلغه منظموها بشق الأنفس، أن القوى المعارضة الأخرى التي اعترضت على التوقيت أو تشككت في دوافع منظمي التظاهرة تؤيد المطالب التي رفعها المتظاهرون من حيث المبدأ.. فالأحزاب والتنظيمات السياسية ذات الوزن في الشارع والتاريخ الكفاحي المعروف، والتي شاركت بدور مهم في ثورة 25 يناير عبرت صراحة عن رفضها لنهج «الإخوان» ومحاولاتهم الدؤوبة- كما يقولون- للسيطرة على مفاصل الدولة المصرية، لكنها ترى أن الوقت غير ملائم لمحاسبة الرئيس محمد مرسي، الذي لم يمض على تسلمه المنصب سوى 57 يوماً، فهو لم يستهلك حتى المائة يوم الأولى من حكمه، ورأت في المظاهرة عملاً مستعجلاً لن يفيد المعارضة، بل على العكس ستبدو في نظر الجماهير بمثابة تربص بالرئيس مرسي وبحكم الإخوان بغض النظر عن مشروعية المطالب المرفوعة. المطالب التي رفعتها التظاهرة المحدودة التي قادها محمد أبو حامد ومن تضامنوا معه والتي يقرها المعارضون الذين نأوا بأنفسهم عن المشاركة تتمثل في ذات «المخاوف القديمة» التي كانت موضوعاً للصراع بين القوى المدنية والديمقراطية- الليبرالية واليسارية- والتيارات الإسلامية وفي طليعتهم الإخوان وحزب الحرية والعدالة، وهي رفض سيطرة القوى الإسلامية على مفاصل الدولة ومؤسساتها، بدءاً من الجمعية التأسيسية للدستور، وما يسمونه ب«أخونة المؤسسات»- الجيش والشرطة والخدمة المدنية وأجهزة الإعلام والصحافة القومية- والتي يريدون الإبقاء عليها كمؤسسات وطنية محايدة بغض النظر عمن يكون الحزب الحاكم، ضماناً للتداول السلمي للسلطة في نظام ومجتمع ديمقراطي ودولة مدنية.. ويرون أن الإخوان يسعون لتحويلها إلى مؤسسات تابعة لهم. لكن المأزق الحقيقي الذي يمكن أن يلحظه المراقب للأوضاع المصرية في ما بعد ثورة 25 يناير ووصول «الإخوان» ممثلين بالدكتور محمد مرسي إلى سدة الرئاسة، بالإضافة إلى الأغلبية الواضحة التي حققوها في انتخابات مجلس الشعب المحلول ومجلس الشورى القائم، يتمثل في موقف «الجماعة» والتيارات الإسلامية عموماً من الوضع الموروث منذ عهد السادات ومن بعده مبارك، وكيفية التعامل معه، والتصرف حياله، والمتمثل في اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية مع اسرائيل التي تلقي بظلالها على جميع وجوه الحياة المصرية، السياسية والاقتصادية والعلاقات الخارجية، والتي يبدو معها الصراع الداخلي بين القوى السياسي المتعارضة أقل شأناً وأهمية بالنظر لهذه التحديات الموروثة. وأنا أتأمل هذا الواقع المصري الملتبس والمربك للحاكمين والمحكومين في مصر ما بعد الثورة، عدت إلى كتاب قديم ومهم يرقد في مكتبتي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، عنوانه «مصر بعد الاتفاقية» كتبه المفكر اليساري الراحل محمد سيد أحمد، شخَّص فيه المشكلات والعلل المترتبة على اتفاقية السلام مع اسرائيل التي اجترأ الرئيس المقتول أنور السادات على إبرامها مع العدو الاسرائيلي متخطياً كل الحواجز وحقائق الصراع العربي- الإسرائيلي ومتجاوزاً كل المحاذير والمحظورات القومية والسياسية والأخلاقية التي ينطوي عليها ذلك الصراع.. لكن المفارقة الحقيقية واللافتة هي أن تلك الاتفاقية خلفت واقعاً مستمراً- حتى لا نقول دائماً- جعلت جميع القوى السياسية المصرية، وبرغم رفضها المعلن ومواقفها المعروفة مضطرة الآن لأن تسير وفق، أو على الأقل تساير، منطق تلك الاتفاقية التي فرضت على مصر في لحظة ضعف وتراجع وارتباك أعقب الانتصار المنقوص في اكتوبر برغم «العبور» المؤزر لجيش مصر الباسل. قراءة كتاب محمد سيد أحمد وتشريحه العميق للاتفاقية وآثارها الداخلية على مصر وتداعياتها القومية على مستوى الوطن العربي وعلى صراع الوجود بين الفلسطينيين والمحتلين الصهاينة، تجسد الواقع الملتبس الذي تجد فيه النخبة السياسية المصرية نفسها بعد الاطاحة بنظام حسني مبارك.. فالاتفاقية صممت أساساً لكي تخرج أكبر وأهم قوة عربية- هي مصر- من حلبة الصراع حتى تتحقق نظرية الأمن الاسرائيلي الذي يهم المصالح الإستراتيجية الأمريكية، ويجعل يد اسرائيل والولايات المتحدة هي العليا في كل ما يتعلق بشؤون المنطقة. صممت بحيث تكون اتفاقية «دائمة» دون اعتبار لأن تكون عادلة، خصوصاً بالنسبة لموضوع الصراع السرمدي بين الفلسطينيين ومحتلي أرضهم الصهاينة. وفق هذه الحالة المستعصية، لم يكن غريباً أن يقدم «الإخوان» ومرشحهم الرئاسي الدكتور محمد مرسي «تطمينات» برعاية الاتفاقية والاستمرار وفق منطقها وبنودها الأساسية، بالرغم من رأي «الإخوان» وكل القوى الوطنية المصرية في الاتفاقية ومقاومتها المستمرة لمحاولات «التطبيع» التي شكلت بعض أهم البنود والأهداف التي حوتها الاتفاقية. وها هو د. محمد مرسي يعلن عن نيته بزيارة «واشنطن» راعية الاتفاقية، وها هي مصر تقبل في عهده قرضاً من صندوق النقد الدولي- طلبت حكومة هشام قنديل رفعه من 2.3 مليار إلى 8.4 مليار دولار دون إعلان الشروط التي ينطوي عليها القرض- وشروط صندوق النقد الدولي مشهورة خصوصاً في قضايا الدعم وتحرير التجارة التي غالباً ما تصيب الفقراء في مقتل. في بعض فصول كتابه «مصر بعد الاتفاقية» يلخص محمد سيد أحمد المأزق الراهن الذي تعيشه مصر بعد وصول الإسلاميين للسلطة، والمأزق الذي تعيشه النخبة السياسية - حاكمة ومعارضة- بعيون «زرقاء اليمامة» فيقول: لننظر إلى هذه المعضلة بما تنطوي عليه من رؤى مختلفة للهوية الوطنية، لا من وجهة نظر القوى التقدمية التي قد تُرجع إلى عقيدتها مناصرتها للاتحاد السوفيتي- (حينها)- أو من وجهة نظر القوى القومية التي أقامت تحالفاً استراتيجياً، بل حتى من زاوية رؤية «الجهاد باسم الإسلام».. فالمجاهد المسلم قد يريحه أن تتصدى الدولة لخطر الإلحاد الذي يراه في الشيوعية، ولكن لن يريحه أبداً أن يتخذ هذا تكأة للتصالح مع الصهيونية. وقد بارك شيخ الأزهر السلام مع اسرائيل، استناداً إلى قوله تعالى: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله». ولكن لن ينسى المؤمن قوله تعالى: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود».. وقد خاضت مصر حرب رمضان، وعبرت قواتها المسلحة وهي تُكبِّر، ونقلت وسائل الإعلام وقتذاك إن ملائكة بأجنحة بيضاء استظلتها فوق الجبهة تباركها في جهادها. فلقد أرادت الدولة أن تلهب حماس المصريين من منطلق الإيمان بأن الحرب التي يخوضونها هي حرب مقدسة.. أفلن يتساءل المؤمن: كيف تصبح بعد ذلك معبراً للتصالح والوئام. واليوم- (حينها)- اندلعت ثورة الإسلام في ايران، تصدت لاسرائيل وأدانت مصر تصالحها مع اسرائيل، هل يقنع المسلم في مصر بأنه أقرب إلى يهود اسرائيل منه إلى مسلمي إيران، مع ما يوجد من خلاف بين الشيعة وأهل السنة؟! هكذا كان محمد سيد أحمد يطرح التساؤلات العويصة عام 1979م، ويقول: معضلات ومعضلات، لا مفر من مجابهتها.. فهل من مُتصدٍ لها؟ وها نحن نتساءل معه بعد (33) عاماً ماذا سيفعل الذين عارضوا «الاتفاقية» وهم في المعارضة بهذه الاتفاقية بعد أن وصلوا اليوم إلى الحكم؟!